فصل: باب الْفِتْنَةِ الَّتِى تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


الجزء العاشر

كِتَاب الْفِتَنِ

قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال 25‏]‏ وَمَا كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُحَذِّرُ مِنَ الْفِتَنِ

- فيه‏:‏ أَسْمَاءُ، قَالَتْ‏:‏ قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏أَنَا عَلَى حَوْضِى أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَىَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِى، فَأَقُولُ‏:‏ أُمَّتِى، فَيُقَالُ‏:‏ لا تَدْرِى، مَشَوْا عَلَى الْقَهْقَرَى‏)‏‏.‏

وقال ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْد عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلىَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لأنَاوِلَهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِى، فَأَقُولُ‏:‏ أَىْ رَبِّ، أَصْحَابِى، يَقُولُ‏:‏ لا تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْل، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ‏)‏‏.‏

وزاد أَبُو سَعِيد قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُمْ مِنِّى‏)‏، فَيُقَالُ‏:‏ إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ‏:‏ سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الفتن ومن شرها ويتخوف من وقوعها؛ لأنها تذهب بالدين وتتلفه، وقال‏:‏ قول الله‏:‏ ‏(‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ قال‏:‏ إن الفتنة إذا عمّت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصى وانتشار المنكر‏.‏

وقد سألت زينب النبى صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى فقالت‏:‏ يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم إذا كثر الخبث‏)‏ وفسر العلماء الخبث أولاد الزنا، فإذا ظهرت المعاصى ولم تُغير، وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، فإن لم يفعلوا فقد تعرضوا للهلاك، إلا أن الهلاك طهارة للمؤمنين ونقمة على الفاسقين، وبهذا قال السلف‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك أنه قال‏:‏ تهجر الأرض التى يصنع فيها المنكر جهارًا ولا يستقر فيها‏.‏

واحتج بصنيع أبى الدرداء فى خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا وهو من الكبائر، وأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء‏:‏ ‏(‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل‏.‏

فقال معاوية‏:‏ ما أرى بمثل هذا بأسًا‏.‏

فقال أبو الدرداء‏:‏ من يعذرنى من معاوية، أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرنى عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها‏)‏‏.‏

وأما أحاديث أهل هذا الباب فى ذكر من يعرفهم النبى من أمته، ويحال بينهم وبينه، لما أحدثوا بعده، فذلك كل حدث فى الدين لا يرضاه الله من خلاف جماعة المسلمين، وجميع أهل البدع كلهم فيهم مبدلون محدثون، وكذلك أهل الظلم والجور، وخلاف الحق وأهله كلهم محدث مبدل ليس فى الإسلام داخل فى معنى هذا الحديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اختلجوا دوني‏)‏‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ خلجت الشيء، واختلجته‏:‏ جذبته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فسحقًا سحقًا لمن بدل بعدي‏)‏ يعنى‏:‏ بعدًا له والسحيق‏:‏ البعيد ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 11‏]‏، ومعنى ذلك‏:‏ الدعاء على من بدّل وغيرّ كقوله‏:‏ أبعده الله‏.‏

قال أبو جعفر الداودى‏:‏ وليس هذا مما يحتم به للمختلجين بدخول النّار؛ لأنه يحتمل أن يختلجوا وقتًا فيلحقهم من هول ذلك اليوم وشدته ما شاء الله، ثم يتلقاهم الله بما شاء من رحمته، ولا يدل قوله‏:‏ ‏(‏سحقًا سحقًا‏)‏ أنه لا يشفع لهم بعد؛ لأن الله تعالى قد يلقى لهم ذلك فى قلبه وقتًا ليعاقبهم بما شاء إلى وقت يشاء، ثم يعطف قلبه عليهم فيشفع لهم، وقد جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى‏)‏‏.‏

وقد قال بعض السلف‏:‏ فالذين يعرفهم النبى ويحال بينهم وبينه أنهم هم المرتدون، واستدل على ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏أى رب أصحابى، فيقال‏:‏ إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى‏)‏ ذكره فى باب الحوض فى آخر الرقاق وفى هذه الأحاديث الإيمان بحوض النبى صلى الله عليه وسلم على ما ذهب إليه أهل السنة‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سَتَرَوْنَ بَعْدِى أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا‏)‏

وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِ عَلَى الْحَوْضِ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابن مسعود، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا‏)‏، قَالُوا‏:‏ فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا، فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُبَادَة، بَايَعَنَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمَلْتَ فُلانًا، وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِى، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى هذه الأحاديث حجة فى ترك الخروج على أئمة الجور، ولزوم السمع والطاعة لهم والفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلّب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏(‏سترون بعدى أثرةً وأمورًا تنكروها‏)‏ فوصف أنهم سيكون عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها، ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها، وأمرهم بالصبر عليهم والتزام طاعتهم على ما فيهم من الجور، وذكر على بن معبد، عن على بن أبى طالب أنه قال‏:‏ لابد من إمامة برة أو فاجرة‏.‏

قيل له‏:‏ البرة لابد منها، فما بال الفاجرة‏؟‏ قال‏:‏ تقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويقسم بها الفئ، ويجاهد بها العدو‏.‏

ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏من خرج من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهليةً‏)‏‏.‏

وفى حديث عبادة‏:‏ ‏(‏بايعنا رسول الله على السمع والطاعة‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا‏)‏ فدل هذا كله على ترك الخروج على الأئمة، وألا يشق عصا المسلمين، وألا يتسبب إلى سفك الدماء وهتك الحريم، إلا أن يكفر الإمام ويظهر خلاف دعوة الإسلام، فلا طاعة لمخلوق عليه، وقد تقدم فى كتاب الجهاد، وكتاب الأحكام هذا‏.‏

قال الخطابى‏:‏ ‏(‏بواحًا‏)‏ يريد ظاهرًا باديًا، ومنه قوله‏:‏ باح بالشىء يبوح به بوحًا وبئوحًا، إذا أذاعه وأظهره ومن رواه ‏(‏براحًا‏)‏ فالبراح بالشىء مثل البواح أو قريب منه، وأصل البراح الأرض القفر التى لا أنيس ولا بناء فيها، وقال غيره‏:‏ البراح‏:‏ البيان، يقال‏:‏ برح الخفاء أى ظهر‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَلاكُ أُمَّتِى عَلَى يَدَي أُغَيْلِمَةٍ سُفَهَاءَ من قريش‏)‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ‏)‏‏.‏

فَقَالَ مَرْوَانُ‏:‏ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِى فُلانٍ، وَبَنِى فُلانٍ لَفَعَلْتُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وفى هذا الحديث أيضًا حجة لجماعة الأمة فى ترك القيام على أئمة الجور ووجوب طاعتهم والسمع والطاعة لهم، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قد أعلم أبا هريرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، ولم يأمره بالخروج عليهم ولا بمحاربتهم، وإن كان قد أخبر أن هلاك أمته على أيديهم، إذ الخروج عليهم أشدّ فى الهلاك وأقوى فى الاستئصال، فاختار صلى الله عليه وسلم لأمته أيسر الأمرين وأخف الهلاكين، إذ قد جرى قدر الله وعلمه أن أئمة الجور أكثر من أئمة العدل وأنهم يتغلّبون على الأمة، وهذا الحديث من أقوى ما يرد به على الخوارج‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ ‏(‏ما أراد النبى صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏هلاك أمتى‏)‏ أهلاكهم فى الدين أم هلاكهم فى الدنيا بالقتل‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ أراد الهلاكين معًا، وقد جاء ذلك بينًا فى حديث على بن معبد عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه قال‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏أعوذ بالله من إمارة الصبيان‏.‏

فقال أصحابه‏:‏ وما إمارة الصبيان‏؟‏ فقال‏:‏ إن أطعتموهم هلكتم، وإن عصيتموهم أهلكوكم، فهلاكهم فى طاعتهم هلاك الدين، وهلاككم فى عصيانهم هلاك الأنفس‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلم ذكر البخارى فى الترجمة أغيلمة سفهاء من قريش، ولم يذكر ‏(‏سفهاء‏)‏ فى حديث الباب‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ كثيرًا ما يفعل مثل هذا، وذلك أن تأتى فى حديث لا يرضى إسناده لفظة تبين معنى الحديث فيترجم بها ليدل على المراد بالحديث، وعلى أنه قد روى عن العلماء ثم لا يسعه أن يذكر فى حشو الباب إلا أصحّ ما روى فيه لاشتراطه الصحةّ فى كتابه، وقد روى ذلك على بن معبد قال حدثنا أشعث بن سعيد، عن سماك، عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏إن فساد أمتى، أو هلاك أمتى على رءوس غلمة سفهاء من قريش‏)‏‏.‏

فبان بهذا الحديث أن الغلمة سفهاء، وأن الموجب لهلاك الناس بهم أنهم رؤساء وأمراء متغلبين‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ‏)‏

- فيه‏:‏ زَيْنَب، قَالَتِ‏:‏ اسْتَيْقَظَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ، مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ‏)‏، وَعَقَدَ سُفْيَانُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً، قِيلَ‏:‏ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أُسَامَة، أَشْرَفَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِنِّى لأرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْقَطْرِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذه الأحاديث كلها مما أنذر النبى صلى الله عليه وسلم بها أمته وعرّفهم قرب الساعة لكى يتوبوا قبل أن يهجم عليهم وقت غلق باب التوبة حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، وقد ثبت أن خروج يأجوج ومأجوج من آخر الأشراط، فإذا فتح من ردمهم فى وقته صلى الله عليه وسلم مثل عقد التسعين أو المائة فلا يزال الفتح يستدير ويتسع على مرّ الأوقات، وهذا الحديث فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بعثت أنا والساعة كهاتين‏.‏

وأشار بأصبعيه السبابة والتى تليها‏)‏ وقد روى النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏ويل للعرب من شر قد اقترب، موتوا إن استطعتم‏)‏ وهذا غاية فى التحذير من الفتن والخوض فيها حين جعل الموت خيرًا من مباشرتها، وكذلك أخبر فى حديث أسامة بوقوع الفتن خلال بيوتهم ليتوقفوا ولا يخوضوا فيها ويتأهبوا لنزولها بالصبر، ويسألوا الله العصمة منها والنجاة من شرها‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ والخبث‏:‏ الفسوق والفجور، والعرب تدعو الزنا خبثًا وخبيثة، وفى الحديث أن رجلا وجد مع امرأة يخبث بها أى يزني‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏ والأطم‏:‏ حصن مبنى بالحجارة‏.‏

باب ظُهُورِ الْفِتَنِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ‏)‏، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏الْقَتْلُ، الْقَتْلُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، وَأَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ لأيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ‏)‏‏.‏

وَالْهَرْجُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ‏:‏ الْقَتْلُ‏.‏

- وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ لأبِى مُوسَى‏:‏ تَعْلَمُ الأيَّامَ الَّتِى ذَكَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَيَّامَ الْهَرْجِ، قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا كله إخبار من النبي بأشراط الساعة، وقد رأينا هذه الأشراط عيانًا وأدركناها، فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وألقى بالشح فى القلوب، وعمّت الفتن، وكثر القتل، وليس فى الحديث ما يحتاج إلى تفسير غير قوله‏:‏ ‏(‏يتقارب الزمان‏)‏ ومعنى ذلك، والله أعلم، تقارب أحوال أهله فى قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله، وقد جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا‏)‏ يعنى لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف لله يلجأ إليهم عند الشدائد، ويستشفى بآرائهم، ويتبرك بدعائهم، ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ قد يكون معناه فى ترك طلب العلم خاصةً والرضا بالجهل، وذلك أن الناس لا يتساوون فى العلم؛ لأن درج العلم تتفاوت، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏ وإنما يتساوون إذا كانوا جهالا‏.‏

قال الخطابى‏:‏ وأما حديثه الآخر‏:‏ ‏(‏أنه يتقارب الزمان حتى تكون السنّة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة‏)‏ فإن حماد بن سلمة قال‏:‏ سألت عنه أبا سلمان فقال‏:‏ ذلك من استلذاذ العيش‏.‏

يريد، والله أعلم، خروج المهدى ووقوع الأمنة فى الأرض ببسطه العدل فيها فيستلذ العيش عند ذلك وتستقصر مدته، ولا يزال الناس يستقصرون أيام الرخاء وإن طالت، ويستطيلون أيام المكروه وإن قصرت، وللعرب فى مثل هذا‏:‏ مر بنا يوم كالعرقوب القطا قصرًا‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من شرار الناس من تدركهم الساعة أحياء‏)‏ فإنه وإن كان لفظه العموم فالمراد به الخصوص، ومعناه‏:‏ أن الساعة تقوم فى الأكثر والأغلب على شرار الناس بدليل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتى على الحق منصورة لا يضرها من ناوأها حتى تقوم الساعة‏)‏‏.‏

فدل هذا الخبر أن الساعة تقوم أيضًا على قوم فضلاء، وأنهم فى صبرهم على دينهم كالقابض على الجمر، وذكر فى مواضع‏.‏

باب لا يَأْتِى زَمَانٌ إِلا الَّذِى بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ

- فيه‏:‏ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِىٍّ، أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ‏:‏ اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لا يَأْتِى عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِى بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمَّ سَلَمَةَ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْخَزَائِنِ‏؟‏ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ‏؟‏ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ، يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ، لِكَىْ يُصَلِّينَ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ حديث أنس من علامات النبوة لإخبار النبى صلى الله عليه وسلم بتغير الزمان وفساد الأحوال، وذلك غيب لا يعلم بالرأى، وإنما يعلم بالوحى، ودل حديث أم سلمة على الوجه الذى يكون به الفساد، وهو ما يفتح الله عليهم من الخزائن وأن الفتن مقرونة بها، ويشهد لذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6، 7‏]‏ فمن فتنة المال ألا ينفق فى طاعة الله، وأن يمنع منه حق الله، ومن فتنته السرف فى إنفاقه ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رُبّ كاسية فى الدنيا عارية في الآخرة‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فأخبر أن فيما فتح من الخزائن فتنة الملابس، فحذّر صلى الله عليه وسلم أزواجه وغيرهن أن يفتن فى لباس رفيع الثياب التى يفتن النفوس فى الدنيا رقيقها وغليظها، وحذّرهن التعرى يوم القيامة منها ومن العمل الصالح، وحضّهن بهذا القول أن يقدمن ما يفتح عليهن من تلك الخزائن للآخرة وليوم يحشر الناس عراةً، فلا يكسى إلا الأول فالأول فى الطاعة والصدقة، والإنفاق فى سبيل الله، فمن أراد أن تسبق إليه الكسوة فليقدمها لآخرته، ولا يذهب طيباته فى الدنيا وليرفعها إلى يوم الحاجة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من يوقظ صواحب الحجرات‏)‏ ندب بعض خدمه لذلك، كما قال يوم الخندق‏:‏ ‏(‏من يأتينى بخبر القوم‏)‏ وكذلك قال من يسهل عليه فى الليل أن يدور على حجر نسائه، فيوقظهن للصلاة والاستعاذة مما أراه الله من الفتن النازلة كى يوافقن الوقت المرجو فيه الإجابة، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن حين نزول البلاء ينبغى الفزع إلى الصلاة والدعاء، فيرجى كشفه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 42‏]‏ الآية، وقد تقدم حديث أم سلمة فى كتاب الصلاة فى باب تحريض النبى صلى الله عليه وسلم على صلاة اللّيل وذكرنا فيه معنىً زائدًا‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا‏)‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى، قَالا‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاحِ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِى، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِى يَدِهِ، فَيَقَعُ فِى حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سُفْيَانُ، قُلْتُ لِعَمْرٍو‏:‏ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، يَقُولُ‏:‏ مَرَّ رَجُلٌ بِسِهَامٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا‏)‏، قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِى مَسْجِدِنَا، أَوْ سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، أَوْ فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ، أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَىْءٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فليس منا‏)‏ يعنى ليس متبعًا لسُنتنا ولا سالكًا سبيلنا، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من شق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية‏)‏ لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ولا يخذله ولا يسلمه، وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضُه بعضًا، فمن خرج عليهم بالسيف بتأويل فاسدٍ رآه، فقد خالف ما سَنّهُ النبى صلى الله عليه وسلم من نصرة المؤمنين وتعاون بعضهم لبعض، والفقهاء مجمعون على أن الخوارج من جملة المؤمنين لإجماعهم كلهم على أن الإيمان لا يزيله غير الشرك بالله ورسوله والجحد لذلك، وأن المعاصى غير الكفر لا يكفر مرتكبها، ذكر أسد بن موسى فى كتاب الكف عن أهل القبلة قال‏:‏ حدثنا هشيم بن بشير قال‏:‏ حدثنا كوثر بن حكيم قال‏:‏ حدثنا نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود‏:‏ ‏(‏أتدرى كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة‏؟‏ قال‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ حكم الله فيها أن لا يقتل أسيرها ولا يقسم فيئها، ولا يجهز على جريحها ولا يتبع مدبرها‏)‏‏.‏

وبهذا عمل على بن أبى طالب، ورضيت الأمة بفعله هذا فيهم، وقال الحسن بن على‏:‏ لولا على بن أبى طالب لم يعلم الناس كيف يقاتلون أهل القبلة، فقاتلهم على بما كان عنده من العلم فيهم من النبى صلى الله عليه وسلم فلم يكفرهم ولا سبَاهم ولا أخذ أموالهم، فمواريثهم قائمة، ولهم حكم الإسلام‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح‏)‏ وأمرهُ للذى مر بالسهام فى المسجد أن يمسك نصالها، هو من باب الأدب وقطع الذرائع ألا يشير أحد بالسلاح خوف ما يئول منها ويخشى من نزع الشيطان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فيقع فى حفرة من النار‏)‏ معناه‏:‏ إن أنفذ الله عليه الوعيد، وهذا مذهب أهل السنة، ومن روى فى الحديث ‏(‏ينزغ فى يده‏)‏ فقال صاحب العين‏:‏ نزغ بين القوم نزغًا‏:‏ حمل بعضهم على بعض بفساد بينهم، ومنه نزغ الشيطان‏.‏

وقال صاحب الأفعال‏:‏ نزغ‏:‏ طعن، ومن روى ‏(‏ينزع‏)‏ بالعين فهو قريب من هذا المعنى‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ نزعت الشىء نزعًا‏:‏ قلعته، ونزع بالسهم‏:‏ من رمى به‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ‏)‏

- فيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، وابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ‏)‏‏.‏

- وفى حديث أَبِى بَكْرَةَ‏:‏ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِىِّ، حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ‏:‏ أَشْرِفُوا عَلَى أَبِى بَكْرَةَ، قَالُوا‏:‏ هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ‏.‏

قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَحَدَّثَتْنِى أُمِّى عَنْ أَبِى بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَوْ دَخَلُوا عَلَىَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الباب فى معنى الذى قبله، فيه النهى عن قتل المؤمنين بعضهم بعضًا، وتفريق كلمتهم وتشتيت شملهم، وليس معنى قوله‏:‏ ‏(‏لا ترجعوا بعدى كفارًا‏)‏ النهى عن الكفر الذى هو ضد الإيمان بالله ورسوله، وإنما المراد بالحديث النهى عن كفر حق المسلم الذى أمر به النبى صلى الله عليه وسلم من التناصر والتعاضد، والكفر فى لسان العرب‏:‏ التغطية، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر‏)‏ يعنى‏:‏ قتاله كفر بحقه وترك موالاته، للإجماع على أن أهل المعاصى لا يكفرون بارتكابها‏.‏

وقال أبو سليمان الخطابى‏:‏ قيل‏:‏ معناه لا يكفر بعضكم بعضًا فتستحلوا أن تقاتلوا ويضرب بعضكم رقاب بعض، وقيل‏:‏ إنه أراد بالحديث أهل الردة أخبرنى إبراهيم بن فراس قال‏:‏ سمعت موسى بن هارون يقول‏:‏ هؤلاء أهل الردة قتلهم أبو بكر‏.‏

وقد تقدم في كتاب الحج فى باب الخطبة فى أيام منى زيادة فى معنى هذا الحديث من كلام الطبري‏.‏

قال المهلب‏:‏ وابن الحضرمى رجل امتنع من الطاعة فأخرج إليه جارية بن قدامة جيشًا فظفر به فى ناحية من العراق، وكان أبو بكرة يسكنها، فأمر جارية بصلبه فصلب، ثم ألقى النار فى الجذع الذى صلب فيه بعد أيام، ثم أمر جارية خيثمة أن يشرفوا على أبى بكرة ليختبر إن كان يحارب فيعلم أنه على غير طاعة أو يستسلم فيعرف أنه على الطاعة، فقال له خيثمة‏:‏ هذا أبو بكرة يراك وما صنعت فى ابن الحضرمى وما أنكر عليك بكلام ولا بسلاح، فلما سمع أبو بكرة ذلك وهو فى عليّة له قال‏:‏ لو دخلوا علىّ دارى ما بهشت بقصبة فكيف أن أقاتلهم بسلاح؛ لأنى لا أرى الفتنة فى الإسلام، ولا التحرك فيها مع إحدى الطائفتين‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ‏(‏ما بهشت إليهم بقصبة‏)‏ يعنى ما تناولتهم ولا مددت يدى إليهم بسوء، يقال للرجل إذا أراد معروف الرجل أو أراد مكروهه وتعرّض لخيره أو شره‏:‏ بهش فلان إلى كذا وكذا، ومنه قول النابغة‏:‏

سبقت الرجال الباهشين إلى العلا *** كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد

وفي كتاب الأفعال‏:‏ بهشت إلى فلان‏:‏ خففت إليه، ورجل بهش وباهش‏.‏

باب تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِى، وَالْمَاشِى فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِى، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجًأ أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ إن قال قائل‏:‏ ما معنى هذا الحديث، وهل المراد به كل فتنة بين المسلمين أو بعض الفتن دون البعض‏؟‏ فإن قلت‏:‏ المعنى به كل فتنةٍ، فما أنت قائل فى الفتن التى مضت، وقد علمت أنه نهض فيها من خيار المسلمين خلق كثير، وإن قلت المعنى به البعض، فأيتها المعنيّة به، وما الدليل على ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ قد اختلف السلف فى ذلك، فقال بعضهم‏:‏ المراد به جميع الفتن وغير جائز للمسلم النهوض فى شىء منها، قالوا‏:‏ وعليه أن يستسلم للقتل إن أريدت نفسه ولا يدفع عنها، والفتنة‏:‏ الاختلاف الذى يكون بين أهل الإسلام ولا إمام لهم مجتمع على الرضا بإمامته لما يستنكر من سيرته فى رعيته، فافترقت رعيته عليه حتى صار افتراقهم إلى القتال بأن رضيت منهم فرقة إمامًا غيره، وأقامت فرقة على الرضا به، قالوا‏:‏ وإذا كان كل واحد من هذين المعنيين، فهى التى أمر النبى صلى الله عليه وسلم بكسر السيوف فيها ولزوم البيوت وهى التى قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القاعد فيها خير من القائم‏)‏ وممن قعد فى الفتنة حذيفة، ومحمد بن سلمة، وأبو ذر، وعمران بن حصين، وأبو موسى الأشعرى، وأسامة بن زيد، وأهبان بن صيفى، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وأبو بكرة، ومن التابعين شريح والنخعي، وحجتهم من طريق النظر أن كل فريق من المقتتلين فى الفتنة فإنه يقاتل على تأويل، وإن كان فى الحقيقة خطأ فهو عند نفسه فيه محق وغير جائز لأحدٍ قتله، وسبيله سبيل حاكم من المسلمين يقضى بقضاء مما اختلف فيه العلماء على ما يراه صوابًا، فغير جائز لغيره من الحكام نقضه إذا لم يخالف بقضائه ذلك كتابًا ولا سُنّةً ولا جماعة، فكذلك المقتتلون فى الفتنة كل حزب منهم عند نفسه محق دون غيره بما يدعون من التأويل، وغير جائز لأحد قتالهم، وإن هم قصدوا لقتله فغير جائز دفعهم بضرب أو جرح، لأن ذلك إنما يستحقه من قاتل وهو متعمد الإثم فى قتاله، والواجب على الناس إذا اقتتل حزبان من المسلمين بهذه الصفة ترك معاونة أحدهما على الآخر وعليهم لزوم البيوت، كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم أبا ذر ومحمد بن سلمة وعبد الله بن عمر، وما عمل به من تقدّم ذكرهم من الصحابة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إذا كانت فتنة بين المسلمين، فالواجب على المسلمين لزوم البيوت وترك معاونة أحد الحزبين، ولكن إن دخل على بعض من قد اعتزل الفريقين منزله، فأتى من يريد نفسه، فعليه دفعه عن نفسه وإن أتى الدفع على نفسه، روى ذلك عن عمران بن حصين وابن عمر وعبيدة السلمانى، واحتجوا بعلة الذين تقدم قولهم غير أنهم اعتلوا فى إباحة الدفع عن أنفسهم بالأخبار الواردة عن النبى أنه قال‏:‏ ‏(‏من أريدت نفسه وماله فقتل فهو شهيد‏)‏‏.‏

فالواجب على كل من أريدت نفسه وماله ظلمًا دفع ذلك ما وجد إليه السبيل، متأولا كان المريد أو معتمدًا للظلم،؛ لأن ذلك عندهم ظلم وعلى كل أحد دفع الظلم عن نفسه بما قدر عليه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كل فرقتين اقتتلتا فغير خارج أحدهما من أحد وجهين من أن تكون الفرقتان مخطئتين فى قتال لعضهم بعضًا، وذلك كقتال أهل الغصب والمقتتلين على النهب وأشباه ذلك مما لا شبهة فى أن اقتتالهم حرام، وأن على المسلمين الأخذ على أيديهم وعقوبتهم بما يكون نكالا لهم، أو تكون إحداهما مخطئة والأخرى مصيبة، فالواجب على المسلمين الأخذ على أيدى المخطئة ومعونة المصيبة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد أمر بالأخذ على يدى الظالم بقوله‏:‏ ‏(‏لتأخذن على يدى الظالم حتى تأطروه على الحق أطرًا أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم‏)‏ فإذا كان كما قلنا، وكان غير جائز أن تكون فرقتان تقاتل كل واحدة منهما صاحبتها أو يسفك بعضها دماء بعض كلاهما مصيبة؛ لأن ذلك لو جاز جاز أن يكون الشىء الواحد حرامًا وحلالاً فى حالة واحدة، وإذا كان كذلك فالواجب على المسلمين معونة المحقّة من الفئتين، وقتال المخطئة حتى ترجع إلى حكم الله، فلا وجه لكسر السيوف والاختفاء فى البيوت عند هيج الفتنة، روى ذلك عن على بن أبى طالب وعمار بن ياسر وعائشة وطلحة، ورواية عن ابن عمر، روى الزهرى، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه قال‏:‏ ما وجدت فى نفسى من شىء ما وجدت أنى لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرنى الله‏.‏

وروى سفيان عن يحيى بن هانئ أنه قال لعبد الله بن عمرو‏:‏ ‏(‏على كان أولى أو معاوية‏؟‏ قال‏:‏ علي‏.‏

قال‏:‏ فما أخرجك‏؟‏ قال‏:‏ إنى لم أضرب بسيفٍ ولم أطعن برمح، ولكن رسول الله قال‏:‏ أطع أباك فأطعته‏)‏‏.‏

وقال إبراهيم بن سعد‏:‏ قتل أويس القرني مع علي فى الرجالة‏.‏

وقيل لإبراهيم النخعي‏:‏ من كان أفضل علقمة أو الأسود‏؟‏ فقال‏:‏ علقمة؛ لأنه شهد صفّين وخضب بسيفه فيها‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ شهد مع على عبيدة السلمانى وعلقمة وأبو وائل وعمرو بن شرحبيل‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ خرج مع ابن الأشعث فى الجماجم ثلاثة آلاف من التابعين ليس فى الأرض مثلهم‏:‏ أبو البخترى، والشعبى، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، والحسن البصري‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كل قتال وقع بين المسلمين ولا إمام لجماعتهم يأخذ للمظلوم من الظالم فذلك القتال هو الفتنة التى أمر رسول الله بالاختفاء فى البيوت فيها وكسر السيوف، كان الفريقان مخطئين أو كان أحدهما مخطئًا والآخر مصيبًا، روى ذلك عن الأوزاعى قال‏:‏ ما كانت منذ بعث الله نبيه إلى اليوم طائفتان من المؤمنين اقتتلتا إلا كان قتالهم خطأ ومعصية، فإن كانتا فى سواد العامة، فإمام الجماعة المصلح بينهم يأخذ من الباغية القصاص فى القتل والجراح كما كان بين تينك الطائفتين اللتين نزل فيهما القرآن إلى رسول الله وإلى الولاة بعده وإن كان قتالهم وليس للناس إمام يجمعهم فهى الفتنة التى النجاة منها الأخذ بعهد النبى صلى الله عليه وسلم أن يعتزل تلك الفرق كلها ولو أن يعض بأصل الشجرة حتى يدركه الموت، وإن كانت خارجة فشهدت على أختها بالضلالة فى إيمانها وبالكفر لم تسم فئة باغية، وقد برئت من ولايتها قبل خروجها عليها، فكفى بالخروج براءة وبرجوع فلهم إذا هزموا إلى مقرهم مروقًا‏.‏

قال الطبري‏:‏ وأنا قائل بالصواب فى ذلك ومبين معنى الفتنة التى القاعد فيها خير من القائم وأمره صلى الله عليه وسلم بكسر السيوف ولزوم البيوت والهرب فى الجبال، والخبر المعارض لهما وهو أمره صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين والأخذ على يد السفهاء والظالمين، إذ غير جائز التعارض فى أخباره صلى الله عليه وسلم؛ إذ كل ما قال حق وصدق‏.‏

فنقول‏:‏ الفتنة فى كلام العرب الابتلاء والاختبار، فقد يكون ذلك بالشدّة والرخاء والطاعة والمعصية، وكان حقًا على المسلمين إقامة الحق ونصرة أهله، وإنكار المنكر والأخذ على أيدى أهله، كما وصفهم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏(‏الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 41‏]‏ كان معلومًا أن من أعان فى الفتنة فريق الحق على فريق الباطل فهو مصيب أمر الله تعالى ومن أنكر ما قلناه قيل له‏:‏ أرأيت المفتئتين‏.‏

الملتمسين ولاية أمر الأمة فى حال لا إمام لهم يقيم عليهم الحق هل خلوا عندك من أحد أمور ثلاثة‏:‏ إما أن يكون كلاهما محقين أو كلاهما مبطلين أو أحدهما محقًا والآخر مبطلا‏؟‏ فإن قال‏:‏ نعم‏.‏

قيل له‏:‏ أو ليس الفريقان إذا كانوا مبطلين حق على المسلمين الأخذ على أيديهما إن قدروا على ذلك، وإن لم تكن لهم طاقة؛ فكراهة أمرهما والقعود عنهما وترك معونة أحدهما على الآخر فقد أوجب معونة الظالم على ظلمه، وذلك خلاف حكم الله‏.‏

وإن قال‏:‏ بل الواجب عليهم ترك الفريقين يقتتلون واعتزالهما، أباح للمسلمين ترك إنكار المنكر وهم على ذلك قادرون، وسئل عن رجل غصب امرأة نفسها للفجور بها على أعين الناس وهم على منعه قادرون، هل يجوز لهم تركه‏؟‏ فإن أجاز ذلك لم يمكن خصمه الإبانة عن خطأ قوله بأكثر من ذلك، فإن أوجب منعه والأخذ على يده، قيل له‏:‏ فما الفرق بينه وبين من رآه يريد قتل رجل ظلمًا وعدوانًا، وما الذى أوجب عليهم منع ذلك ظاهرًا وأباح لهم ترك من يريد قتل النفس التى حرمها الله‏؟‏ ويقال له‏:‏ أرأيت إن كان أحد الفريقين محقًا والآخر مبطلاً أيجب على المسلمين معونة المحق على المبطل‏؟‏ فإن قال‏:‏ لا أوجب ترك الساعى فى الأرض بالفساد، وهذا خلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏ الآية‏.‏

فإن قال‏:‏ تجب معونة المحق على المبطل، أوجب قتال الفرقة الباغية‏.‏

وأما الحالة الثالثة فإنها حالة ممتنع فى العقل وجودها، وذلك حال حرب فريقين من المسلمين يقتلان وهما جميعًا محقان فى ذلك، ولو جاز أن يكون كل واحد منهما مصيب حقيقة حكم الله فى ذلك لجاز أن يكون الشىء الواحد بحكم الله حلالاً وحرامًا فى حالة واحدة وشخص واحد، وهذا ما لا يجوز أن يوصف به تعالى‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تنكر أن يكون الفريقان المقتتلان مصيبين فى قتال كل واحد منهما صاحبه حقيقة حكم الله إذا كان قتالهما فى وجهة التأويل لا من وجهة الخلاف للنصّ الذى لا يحتمل التأويل، فقد علمت قول من قال باجتهاد الرأى فيما لا نصّ فيه من أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله فى الحادثة على كل مجتهد ما أداهُ إليه اجتهاده، وأنه لا خطأ في شيء من ذلك‏.‏

صحة ذلك بما يكون من الصحابة، رضوان الله عليهم، فيما لا نص فيه الله وللرسول من الاختلاف بينهم، ثم لم يظهر واحد منهم لصاحبه البراء ولا الخروج من ولايته، قال‏:‏ فكذلك الفريقان المقتتلان إذا كانا كلاهما طالبى الحق عند أنفسهما ورأى كل واحد منهما أنه محق كالمختلفين من أصحاب رسول الله‏.‏

قيل له‏:‏ أما قول من قال‏:‏ كل مجتهد وإن كان غير مصيب فى خطئه حكم الله الذى طلبه فأضله فقد أخطأ، وذلك كالملتمس عين القبلة للصلاة إليها فى يوم دخن فى فلاة من الأرض بالدلائل غير موجب له التماسه إياها، وقد أخطأها أن يكون مصيبًا فى طلب جهتها، فكذلك المقتتلان على التأويل الذى يعذر فيه المخطئ؛ إذا أخطأ أحدهما حكم الله فى قتاله الفريق المصيب حكم الله‏.‏

وإن عذر بالخطأ الذى وضع عنه الوزر فيه إذا كان سبيله فيما كلف فيه سبيل المحنة والابتلاء، إذا لم يوقفوا على عينه بالنص الذى لا يحتمل التأويل، وأما استشهاد من قال‏:‏ كل مجتهد مصيب بإختلاف أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فيما لا نص فيه بعينه، فإن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لم ينكروا فيما قالوا فيه من الاجتهاد والاستنباط أن يكون فيهم مصيب ومخطئ، فلا حجة لمحتج باختلافهم، فإذا بطل الوجه الثالث وهو أن يكونا معًا محقين ثبت أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم‏)‏ غير معنى به القتال الذى هو معونة المسلمين للمحق والقتال الذى يكون من المسلمين لأهل السّفُه والفسق للأخذ على أيديهم ومنعهم من السعى فى الأرض بالفساد‏.‏

فإن قيل‏:‏ فأى حالة هى التى وصف النبى صلى الله عليه وسلم من الفتنة أن القاعد فيها خير من القائم‏؟‏ قيل‏:‏ هذه حالة لها ثلاث منازل‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون الفريقان المقتتلان مبطلين، وسائر المسلمين مقهورين بينهما لا طاقة لمن أراد الأخذ على أيديهما على النهوض فى ذلك، فإن هو نهض عرض نفسه للهلاك ولم يرج إصلاحًا بينهما فهذه حالة هو فيها معذور بالتخلف، والسلامة له فى الهرب وكسر السيوف، وهذه التى قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القاعد فيها خير من القائم‏)‏ يعنى القاعد عن هذه الفتنة خير من القائم فيها للنهوض إليها معين أهلها؛ لأنه خير من القائم بذكر الله والعمل بطاعته‏.‏

والحالة الثانية‏:‏ أن يكون أحد الفريقين مخطئًا والآخر مصيبًا، وأمرهما مشكل على كثير من الناس لا يعرفون المحق فيها من المبطل، فمن أشكل عليه أمرهما فواجب عليه اعتزال الفريقين ولزوم المنازل حتى يتضح له الحق ويتبين المحق منهما، وتنكشف عنه الشبهة فيلزمه من معونة أهل الحق ما لزم أهل البصائر‏.‏

وأما المنزلة الثالثة‏:‏ فأن يكون مخرج الكلام من رسول الله فى ذلك كان فى خاص من الناس على ما روى عن عمار بن ياسر أنه قال لأبى موسى حين روى عن النبى أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا وقعت الفتنة فاضربوا سيوفكم بالحجارة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث فقال له عمار‏:‏ أنشدك الله يا أبا موسى قال هذا رسول الله لك أنت خاصةً‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

ولو كان الواجب فى كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل وكسر السيوف؛ لما أقيم لله تعالى حق ولا أبطل باطل، ولو وجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين ونسائهم، وسفك دمائهم بأن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا هذه فتنة قد نهينا عن القتال فيها، وأمرنا بكفّ الأيدى والهرب منها‏.‏

وذلك مخالفة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذوا على أيدى سفهائكم‏)‏ ولقوله‏:‏ ‏(‏مثل القائم والمنتهك والمدهن فى حدود الله مثل ثلاثة نفر اصطحبوا فى سفينة، فقال أحدهم‏:‏ نحفر لنأخذ الماء وقال الأخر‏:‏ دعه فإنما يحفر مكانه‏.‏

فإن أخذوا على يده نجا ونجوا جميعًا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإنك قد ذكرت أنه لا فتنة تخلو من الأسباب الثلاثة، ثم أوجبت فى جميعها على أهل البصائر بالحق النهوض مع أهله على أهل الباطل لقمعه، وقد علمت أنه لا فتنة كانت ولا تكون منذ بعث الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أفضل أهلا ولا أقوم بالحق ولا أطلب له من قوم نهضوا فيها بعد مقتل عثمان فإنهم كانوا أهل السابقة والهجرة وخيار الأمة، ولم تكن فتنة يرجى بالنهوض لمعونة أحد فريقيها على الآخر ما كان يرجى فيها لو كان النهوض فى فتن المسلمين جائزًا، وقد علمت من تثبط عن النهوض فيها، ونهى عن المشى إليها وأمر بالجلوس عنها من جلة الصحابة كسعد وأسامة ومحمد بن مسلمة وأبى مسعود الأنصارى وابن عمر وأبى موسى وغيرهم يكثر إحصاؤهم‏.‏

قيل له‏:‏ إن سبيل كل ما احتج من أمر الدين إلى الاستخراج بالقياس والاستنباط بالعقول والأفهام سبيل ما كان من الأختلاف بين الذين نهضوا فى الفتنة التى قعد عنها من ذكرت من القاعدين فيها، ولذلك عذر أهل العلم من قعد عنها، ومن نهض فيها من أهل الدين، ولولا ذلك عظمت المصيبة وجسمت البلية، ولكن قعود من قعد عنها لما كان بتأويل ونهوض من نهض فيها بمثله رجا العالمون بالله للمصيب منهم الثواب الجزيل، وعذروا المخطئ فى خطئه؛ إذ كان خطؤه بالتأويل، لا بالخلاف للنصّ المحكم الذى لا يحتاج للتأويل، ولا شك أن الناهضين فى الفتنة التى قعد عنها سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة كانوا أفضل وأعلم بالله ممن قعد عنها، وذلك أن الناهضين فيها كان منهم من يقر له جميع أهل ذلك الزمان بالفضل والعلم، ومنهم من لا يدفعه جميعهم عن أنه إن لم يكن أفضل منه وأعلم أنه ليس بدونه‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك لم يكن المحتج إذا أغفل سبيل الصواب، لتأويل تأوله وإن كان خطأ، حجةً على من خالفه فى تأويله‏.‏

فإن قال‏:‏ فإن جلوس من جلس ممن ذكرنا لم يكن تأويلا، ولكنه كان نصًا لا يحتمل التأويل لقوله‏:‏ ‏(‏القاعد فيها خير من القائم‏)‏ قيل‏:‏ إنه لا أحد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الفتنة التى قعد عنها أنه صلى الله عليه وسلم نهاه عن النهوض فيها بعينها نصًا، وإنما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القاعد فيها خير من القائم‏)‏ من غير نص على فتنة بعينها أنها هى تلك الفتنة، من غير تسميته بها باسم وتوقيته لها بوقت‏.‏

وقد روى أهل العراق عن على وعبد الله‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر عليًا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين‏)‏‏.‏

وعن أبى سعيد وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لتقاتلنّ على تأويله كما قاتلت على تنزيله‏)‏ وروى أهل الشام عن النبى صلى الله عليه وسلم فى معاوية أنه الذى يقاتل على الحق وأنه صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة فمرّ به عثمان، فقال‏:‏ ‏(‏هذا وأصحابه يومئذ على الحق‏)‏‏.‏

وكل راوٍ منهم لرواية يدعى أنها الحق، وأن تأويله أولى، فإذا كان الأمر كذلك علم أن القول فى ذلك من غير وجه النص الذى لا يحتمل التأويل، وأن الاختلاف بينهم كان من جهة الاستنباط والقياس، والذى لا يوجد فى مثله إجماع من الأمة على معنىً واحد، ولذلك قيل فى قتلى الفريقين ما قيل من رجاء الفريق الآخر الإصابة وأمن على فريق الشبهة‏.‏

وكذلك ما حدثنا خلاد بن أسلم قال‏:‏ حدثنا النضر بن شميل عن ابن عون عن ابن سيرين‏:‏ ‏(‏أن عائشة سمعت صوتًا فقالت‏:‏ من هذا أخالد ابن الواشمة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قالت‏:‏ أنشدك الله إن سألت عن شىء أتصدقني‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قالت‏:‏ ما فعل طلحة‏؟‏ قال‏:‏ قتل‏.‏

قالت‏:‏ ما فعل الزبير‏؟‏ قال‏:‏ قتل‏.‏

قالت‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ بل نحن إنا لله وإنا إليه راجعون على زيد وأصحاب زيد، والله لا يجمعهم الله وقد قتل بعضهم بعضًا‏.‏

قالت‏:‏ أو لا تدري‏؟‏ وسعت رحمته كل شىء وهو على كل شىء قدير‏.‏

قال‏:‏ فكانت أفضل منى‏)‏‏.‏

وحدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا يزيد، حدثنا العوّام بن حوشب، عن عمرو بن مرة، عن أبى وائل قال‏:‏ ‏(‏رأى عمرو بن شرحبيل أبا ميسرة وكان من أفضل الناس عند الله، قال‏:‏ رأيت كأنى دخلت الجنّة، فإذا قباب مضروبة فقلت‏:‏ لمن هذه‏؟‏ فقالوا‏:‏ لذى الكلاع وحوشب، كانا ممن قتل مع معاوية‏.‏

قلت‏:‏ فأين عمار وأصحابه‏؟‏ فقال‏:‏ أمامك‏.‏

فقلت‏:‏ قد قتل بعضهم بعضًا‏؟‏ قيل‏:‏ إنهم لقوا الله فوجدوه واسع المغفرة‏.‏

قلت‏:‏ فما فعل أهل النهر‏؟‏ قال‏:‏ لقوا برجاء‏)‏‏.‏

باب إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا

- فيه‏:‏ أَبُو بَكْرَة، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ‏)‏، قِيلَ‏:‏ فَهَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ولهذا الحديث أيضًا قعد من قعد من الصحابة عن الدخول فى الفتنة ولزموا بيوتهم، وفسر أهل العلم هذا الحديث فقالوا‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القاتل والمقتول فى النار‏)‏ ليس هو على الحتم لهما بالنار، وإنما معناه أنهما يستحقان النار إلا أن يشاء الله أن يغفر لهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمّاهما مسلمين وإن قتل أحدهما صاحبه، ومذهب جماعة أهل السنة أن الله تعالى فى وعيده لعصاة المؤمنين بالخيار إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم، وقد تقدّم فى كتاب الإيمان‏.‏

وقال المؤلف‏:‏ فى حديث أبى بكرة أنه إذا التقى المسلمان بسيفيهما واختلفت طائفتان على التأويل فى الدين، ولم يتبين البغى من أحدهما أنه يجبُ القعود عنهما وملازمة البيوت، ولهذا تخلف محمد بن مسلمة، وسعد بن أبى وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وحذيفة وجماعة عن تلك المشاهد؛ لأنه لم يتبين لهم ما قام فيه المقتتلون، وأخذوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تكون فتن القاعد فيها خير من القائم‏)‏ فأما إذا ظهر البغى فى إحدى الطائفتين لم يحل لمسلم أن يتخلف عن قتال الباغية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ ولو أمسك المسلمون عن قتال أهل البغى لبطلت فريضة الله تعالى وهذا يدل أن قوله‏:‏ ‏(‏فالقاتل والمقتول فى النار‏)‏ ليس فى أحد من أصحاب محمد؛ لأنهم قاتلوا على التأويل، وقال بعض العلماء‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فبأى الطائفتين كانت أولى بالحق‏؟‏ قيل‏:‏ كلا الطائفتين عندنا محمودة مجتهدة برة تقية، وقد قعد عنها أصحاب النبى ولم يروا فى ذلك بيانًا، وهم كانوا أولى بمعرفة الحق فكيف يحكم لأحد الفريقين على الآخر، ألا ترى أن النبى شهد لعلى وطلحة والزبير بالشهادة، فكيف يكون شهيدًا من يحل دمه، وكيف يحكم لأحد الفريقين على الآخر وكلاهما شهداء‏؟‏ روى خالد بن خداش، عن الدراوردى، عن سهيل عن أبيه، عن أبى هريرة قال‏:‏ ‏(‏كان النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير على حراء فتحرك، فقال رسول الله‏:‏ اسكن حراء، فإنه ليس عليك إلا نبى وصديق وشهيد‏)‏ وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على المسلمين توقيرهم والإمساك عن ذكر زللهم ونشر محاسنهم، وكل من ذهب منهم إلى تأويل فهو معذور، وإن كان بعضهم أفضل من بعض وأكثر سوابق‏.‏

باب كَيْفَ الأمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ‏؟‏

- فيه‏:‏ حُذَيْفَة، كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ وَمَا دَخَنُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ‏)‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا‏)‏، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا‏)‏، قُلْتُ‏:‏ فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الحديث من أعلام النبوة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر حذيفة بأمور مختلفة من الغيب لا يعلمها إلا من أوحى إليه بذلك من أنبيائه الذين هم صفوة خلقه، وفيه حجة لجماعة الفقهاء فى وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك القيام على أئمة الجور، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم وصف أئمة زمان الشر فقال‏:‏ ‏(‏دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها‏)‏ فوصفهم بالجور والباطل والخلاف لسنته؛ لأنهم لا يكونون دُعاةً على أبواب جهنم إلا وهم على ضلال، ولم يقل فيهم تعرف منهم وتنكر، كما قال فى الأولين، وأمر مع ذلك بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولم يأمر بتفريق كلمتهم وشق عصاهم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ اختلف أهل العلم فى معنى أمر النبى بلزوم الجماعة ونهيه عن الفرقة، وصفة الجماعة التى أمر بلزومها، فقال بعضهم‏:‏ هو أمر إيجاب وفرض، والجماعة التى أمرهم بلزومها‏:‏ السواد الأعظم، وقالوا‏:‏ كل ما كان عليه السواد الأعظم من أهل الإسلام من أمر دينهم فهو الحق الواجب والفرض الثابت، الذى لا يجوز لأحدٍ من المسلمين خلافه، وسواء خالفهم فى حكم من الأحكام أو خالفهم فى إمامهم القيم بأمرهم وسلطانهم، فهو للحق مخالف‏.‏

ذكر من قال ذلك‏:‏ روى عن ابن سيرين قال‏:‏ لما قتل عثمان، رضى الله عنه، أتيت أبا مسعود الأنصارى، فسألته عن الفتنة، فقال‏:‏ عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة، والجماعة حبل الله، وإن الذى تكرهون من الجماعة هو خير من الذى تحبون من الفرقة‏.‏

واحتجوا بما روى الأوزاعى قال‏:‏ حدثنى قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏إن بنى إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقةً، وإن أمتى على ثنتين وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة، وهى الجماعة‏)‏‏.‏

وروى معتمر بن سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏لا يجمع الله أمتى على ضلالةٍ أبدًا، ويد الله على الجماعة هكذا، فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ فى النار‏)‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الجماعة التى أمر النبى صلى الله عليه وسلم بلزومها هى جماعة أئمة العلماء، وذلك أن الله جعلهم حجةً على خلقه، وإليهم تفزع العامة فى دينها، وهى تبع لها، وهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله لن يجمع أمتى على ضلالة‏)‏‏.‏

ذكر من قال ذلك‏:‏ روى عن المسيب بن رافع قال‏:‏ كانوا إذا جاءهم شىء ليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله سمّوه صوافى الأمر، فجمعوا له العلماء، فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق‏.‏

وسئل عبد الله بن المبارك عن الجماعة الذين ينبغي أن يقتدي بهم، فقال‏:‏ أبو بكر وعمر‏.‏

فلم يزل يجئ حتى انتهى إلى محمد بن ثابت بن الحسين بن واقد، قلت‏:‏ هؤلاء قد ماتوا فمن الأحياء‏؟‏ قال‏:‏ أبو حمزة السكرى‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الجماعة التى أمر رسول الله بلزومها‏:‏ هم جماعة الصحابة الذين قاموا بالدين بعد مضيّه صلى الله عليه وسلم، حتى أقاموا عماده وأرسوا أوتاده وردوه، وقد كاد المنافقون أن ينزعوا أواخيه ويقلبوه من أواسيه إلى نصابه وسلكوا فى الدعاء منهاجه، فأولئك الذين ضمن الله لنبيّه أن لا يجمعهم على ضلالة، قالوا‏:‏ ولو كان معناه لا تجتمع أمته فى زمن من الأزمان من يوم بعثه الله إلى قيام الساعة على ضلالة؛ بطل معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس‏)‏ وشبه ذلك من الأخبار المرويّة عنه صلى الله عليه وسلم أن من الأزمان أزمانًا تجتمع فيها أمته على ضلالة وكفر‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الجماعة التى أمر رسول الله بلزومها‏:‏ جماعة أهل الإسلام ما كانوا مجتمعين على أمر واجب على أهل الملل اتباعها، فإذا كان فيهم مخالف منهم فليسوا بمجتمعين، ووجب تعرف وجه الصّواب فيما اختلفوا فيه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب فى ذلك أنه أمر منه صلى الله عليه وسلم بلزوم إمام جماعة المسلمين ونهى عن فراقهم فيما هم عليه مجتمعون من تأميرهم إياه فمن خرج من ذلك فقد نكث بيعته ونقض عهده بعد وجوبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من جاء إلى أمتى ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنًا من كان‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وحديث أبى بكرة حجة فى ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، فبان أن الجماعة المأمور باتباعها هى السواد الأعظم مع الإمام الجامع لهم، فإذا لم يكن لهم إمام فافترق أهل الإسلام أحزابًا فواجب اعتزال تلك الفرق كلها على ما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم أبا ذرّ ولو أن يعض بأصل شجرة حتى يدركه الموت، فذلك خير له من الدخول بين طائفة لا إمام لها خشية ما يئول من عاقبة ذلك من فساد الأحوال باختلاف الأهواء وتشتت الآراء‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ الدخن‏:‏ الحقد، ويوم دخنان‏:‏ شديد الغم‏.‏

باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُكَثِّرَ سَوَادَ الْفِتَنِ وَالظُّلْمِ

- فيه‏:‏ أَبُو الأسْوَدِ، قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ، فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَنَهَانِى أَشَدَّ النَّهْىِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتِى السَّهْمُ، فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ثبت عن النبى أنه قال‏:‏ من كان مع قوم راضيًا بحالهم فهو منهم صالحين كانوا أو فاسقين، هم شركاء فى الأجر أو الوزر، ومما يشبه معنى هذا الحديث فى مشاركة أهل الظلم فى الوزر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏)‏‏.‏

وأما مشاركة مجالس الصالحين فى الأجر فما فى الحديث‏:‏ ‏(‏إن لله ملائكة يطوفون فى الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإن وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث بطوله ‏(‏قال‏:‏ فيقول الله‏:‏ اشهدوا أنى قد غفرت لهم‏.‏

فيقول ملك من الملائكة‏:‏ فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجته‏.‏

قال‏:‏ هم الجلساء لا يشقى جليسهم‏)‏‏.‏

فإن كان مجالس أهل الفسق كارهًا لهم ولعملهم، ولم يستطع مفارقتهم خوفًا على نفسه أو لعذر منعه فترجى له النجاة من إثم ذلك، يدل على ذلك قوله فى آخر الآية التى نزلت فيمن كثر سواد المشركين‏)‏ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 98‏]‏ الآية وقد كره السلف الكلام فى الفتنة، ذكر ابن جريج عن ابن عباس قال‏:‏ إنما الفتنة باللسان‏.‏

وقال سفيان عن شريح‏:‏ ما أخبرت ولا استخبرت تسعة أعوام منذ كانت الفتنة، فقال له مسروق‏:‏ لو كنت مثلك لسرّنى أن أكون قد مُتّ‏.‏

قال‏:‏ شريح‏:‏ فكيف بأكثر من ذلك مما فى الصدور تلتقى الفئتان إحداهما أحب إلىّ من الأخرى‏.‏

وقال الحسن‏:‏ السلامة من الفتنة‏:‏ سلامة القلوب والأيدى والألسن‏.‏

وكان إبراهيم يستخبر ولا يخبر‏.‏

باب إِذَا بَقِىَ فِى حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ

- فيه‏:‏ حُذَيْفَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا‏:‏ ‏(‏أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ‏)‏، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، فقَالَ‏:‏ ‏(‏يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى فِيهَا أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَىْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأمَانَةَ، فَيُقَالُ‏:‏ إِنَّ فِى بَنِى فُلانٍ رَجُلا أَمِينًا‏)‏، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ‏:‏ مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَىَّ زَمَانٌ وَلا أُبَالِى أَيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَىَّ الإسْلامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَىَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلا فُلانًا وَفُلانًا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الحديث من أعلام النبوة؛ لأن فيه الإخبار عن فساد أديان الناس وقلة أمانتهم فى آخر الزمان، ولا سبيل إلى معرفة ذلك قبل كونه إلا من طريق الوحى، وهذا كقوله‏:‏ ‏(‏بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ‏)‏ وروى ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمر مولى المطلب، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول الله لعبد الله بن عمرو‏:‏ كيف بك يا عبد الله إذا بقيت فى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، فما تأمرني‏؟‏ قال‏:‏ عليك بخاصتك، ودع عنك عوامهم‏)‏ ومن هذا الحديث ترجم البخارى ترجمة هذا الباب، والله أعلم، وأدخل معناه فى حديث حذيفة ولم يذكر الحديث بنص الترجمة؛ لأنه من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبى هريرة، ولم يخرج عن العلاء حديثًا فى كتابه‏.‏

والحثالة‏:‏ سفلة الناس، وأصلها فى اللغة ما تساقط من قشور التمر والشعير وغيرها وهى الحفالة والسخافة‏.‏

وقوله فى حديث حذيفة‏:‏ ‏(‏فى جذر قلوب الرجال‏)‏ قال الأصمعى وأبو عمرو، وغيرهما‏:‏ الجذر‏:‏ الأصل‏.‏

قال الأصمعى‏:‏ بفتح الجيم، وقال أبو عمرو‏:‏ بكسر الجيم‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ الوكت‏:‏ شبيه نكتة فى العين، وعين موكوتة، والوكت‏:‏ سواد اللّون‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ الوكت‏:‏ أثر الشىء اليسير منه‏.‏

وقال الأصمعى‏:‏ يقال للبُسر إذا بدا فيه الإرطاب‏:‏ بُسر موكت‏.‏

والمجل‏:‏ أثر العمل باليد يعالج به الإنسان الشىء حتى تغلظ جلودها، يقال منه‏:‏ مَجِلت يده ومَجَلت لغتان، وذكر الحربى عن ابن الأعرابى‏:‏ المجَل‏:‏ النفط باليد ممتلئ ماءً، وقال أبو زيد‏:‏ إذا كان بين الجلد واللحم ماء قيل‏:‏ مجلت يده تمجل، ونفطت تنفط نفطًا ونفيطًا‏.‏

والمنتبر‏:‏ المتنفط‏.‏

قال الطوسى‏:‏ انتبر الجرح‏:‏ إذا ورم، ويقال‏:‏ سمعت نبرات من كلامه أى‏:‏ ارتفاعات من صوته‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ما أبالى أيكم بايعت‏)‏ حمله كثير من الناس على بيعة الخلافة، وهذا خطأ فى التأويل، وكيف يكون على بيعة الخلافة وهو يقول‏:‏ ‏(‏لئن كان يهوديًا أو نصرانيًا ردّه على ساعيه‏)‏ فهو يبايع على الخلافة اليهودى والنصرانى‏؟‏ ومع هذا إنه لم يكن يجوِّز أن يبايع كل أحد فيجعله خليفة، وهو لا يرضى بأحد بعد عمر، فكيف يتأول هذا عليه مع مذهبه فيه‏؟‏ إنما أراد مبايعة البيع والشراء؛ لأنه ذكر الأمانة وأنها قد ذهبت من الناس يقول‏:‏ فليس أثق اليوم بأحد أئتمنه على البيع والشراء إلا فلانًا وفلانًا لقلة الأمانة فى الناس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ردّه علىّ ساعيه‏)‏ يعنى‏:‏ الوالى الذى عليه، يقول‏:‏ ينصفنى منه، وإن لم يكن له إسلام، وكل من ولى على قوم فهو ساع عليهم، وأكثر ما يقال هذا فى ولاة الصدقة قال الشاعر‏:‏

سعى عقالا فلم يترك لنا سَبَدًا ***

باب التَّعَرُّبِ فِى الْفِتْنَةِ

- فيه‏:‏ سَلَمَةَ ابْنِ الأكْوَعِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ‏:‏ يَا ابْنَ الأكْوَعِ، ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ، تَعَرَّبْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِى فِى الْبَدْوِ‏.‏

وَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ خَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ إِلَى الرَّبَذَةِ، وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً، وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلادًا، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِلَيَالٍ، فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ‏)‏‏.‏

التعرب‏:‏ معناه أن يرجع أعرابيًا بعد الهجرة، وكانوا يستعيذون بالله أن يعودوا كالأعراب بعد هجرتهم؛ لأن الأعراب لم يتعبدوا بالهجرة التى يحرم بها على المهاجر الرجوع إلى وطنه، كما فرض على أهل مكة البقاء مع النبى صلى الله عليه وسلم ونصرته، ولذلك قال الحجاج‏:‏ ‏(‏يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك، تعربت‏؟‏‏)‏ أى‏:‏ رجعت عن الهجرة التى فعلتها لوجه الله تعالى بخروجك من المدينة، فأخبره أن رسول الله أذن له فى سكنى البادية، فلم يكن خروجه من المدينة فرارًا منها ولا رجوعًا فى الهجرة، وهذا لا يحل لأحدٍ فعله، ولذلك دعا النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه ألا يموتوا فى غير المدينة التى هاجروا إليها لله تعالى، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة‏.‏

يرثى له رسول الله أن مات بمكة‏)‏ فتوجع رسول الله حين مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها‏.‏

وذكر البخارى أن سعد بن خولة شهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وأنه من المهاجرين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن‏)‏ من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عما يكون فى آخر الزمان‏.‏

وفيه أن اعتزال الناس عند الفتن والهرب عنهم أفضل من مخالطتهم وأسلم للدين، وسأذكر تفسير شعف الجبال فى حديث أبى سعيد فى كتاب الرقاق فى باب العزلة راحة من خلطاء السوء‏.‏

باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ

- فيه‏:‏ أَنَس، سَأَلُوا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَصَعِدَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَسْأَلُونِى عَنْ شَىْءٍ إِلا بَيَّنْتُ لَكُمْ‏)‏، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لافٌّ رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاحَى يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، مَنْ أَبِى‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَبُوكَ حُذَافَةُ‏)‏‏؟‏ ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ، فَقَالَ‏:‏ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا رَأَيْتُ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِىَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِطِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

وقال قَتَادَة يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة 101‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ كُلُّ رَجُلٍ لافًّا رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى، وَقَالَ‏:‏ عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ، أَوْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَوْأَى الْفِتَنِ‏.‏

وقال مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَس، عَنْ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ‏)‏‏.‏

قال صاحب الأفعال‏:‏ أحفى الرجل فى السؤال‏:‏ ألح، وفى التنزيل‏)‏ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 37‏]‏ أى يلح عليكم فيما يوجبه فى أموالكم، ولما ألحوا على النبى صلى الله عليه وسلم فى المسألة كره مسائلهم وعز على المسلمين ما رأوا من الإلحاح على النبى صلى الله عليه وسلم والتعنيت له، وتوقعوا عقوبة الله أن تحل بهم؛ ولذلك بكوا، فمثل الله له الجنة والنار، وأراه كل ما يسأل عنه فى ذلك الوقت، فقال‏:‏ ‏(‏لا تسألونى عن شى إلا بينت لكم‏)‏ وقال للرجل‏:‏ ‏(‏أبوك حذافة‏)‏ وروى أنّ أم ابن حذافة قالت له‏:‏ ‏(‏يا بنى ما رأيت ابنًا أعق منك أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس‏.‏

فقال ابنها‏:‏ ‏(‏والله لو ألحقنى بعبدٍ أسودٍ للحقت به‏)‏‏.‏

وفي هذا الحديث فضل عمر بن الخطاب وفهمه، ومكانه من الحماية عن الدين والذّب عن رسول الله إذ قال‏:‏ ‏(‏رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا ومحمد نبيًا‏)‏ ومنع تعنيته والإلحاح عليه؛ لأن الله تعالى قد أمر بتعزيزه وتوقيره وألا يرفع الصوت فوق صوته، واستعاذ بالله من شر الفتن، وكذلك استعاذ النبى بالله من شر الفتن، واستعاذ من فتنة المحيا والممات، وإن كان قد أعاذه الله تعالى من كل فتنة، وعصمه من شرها ليسن ذلك لأمته، فتستعيذ مما أستعاذ منه نبينا صلى الله عليه وسلم وهذا خلاف ما يروى عن بعض من قصر علمه أنه قال‏:‏ اسألوا الله الفتنة فإنها حصاد المنافقين، وزعم أن ذلك مروى عن رسول الله، وهو حديث لا يثبت، والصحيح خلافه من رواية أنس وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم الْفِتْنَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، قَامَ إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏الْفِتْنَةُ هَاهُنَا، الْفِتْنَةُ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ، أَوْ قَالَ‏:‏ قَرْنُ الشَّمْسِ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ ابْن عُمَرَ مرةً‏:‏ ‏(‏أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ، الْمَشْرِقَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَلا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى شَأْمِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى يَمَنِنَا‏)‏، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِى نَجْدِنَا، فَأَظُنُّهُ قَالَ فِى الثَّالِثَةِ‏:‏ ‏(‏هُنَاكَ الزَّلازِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ‏)‏‏.‏

- وقيل لابْن عُمَرَ‏:‏ حَدِّثْنَا عَنِ الْقِتَالِ فِى الْفِتْنَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ‏:‏ ‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 193‏]‏، فَقَالَ‏:‏ هَلْ تَدْرِى مَا الْفِتْنَةُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ‏؟‏ إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الدُّخُولُ فِى دِينِهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال الخطابى‏:‏ القرن فى الحيوان يضرب به المثل فيما لا يحمد من الأمور، كقوله صلى الله عليه وسلم فى الفتنة وطلوعها من ناحية المشرق‏:‏ ‏(‏ومنه يطلع قرن الشيطان‏)‏ وقال فى الشمس أنها تطلع بين قرنى الشيطان، والقرن‏:‏ الأمة من الناس يُحدثون بعد فناء آخرين، قال الشاعر‏:‏

إذا ما مضى القرن الذى أنت منهم *** وخلفت فى قرن فأنت غريب

وقال غيره‏:‏ كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر فأخبره صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذلك كانت الفتنة الكبرى التى كانت مفتاح فساد ذات البين وهى مقتل عثمان، رضى الله عنه، وكانت سبب وقعة الجمل وصفين، ثم ظهور الخوارج فى أرض نجد والعراق وما وراءها من المشرق، ومعلوم أن البدع إنما ابتدأت من المشرق، وإن كان الذين اقتتلوا بالجمل وصفين بينهم كثير من أهل الشام والحجاز فإن الفتنة وقعت فى ناحية المشرق، وكان ذلك سببًا إلى افتراق كلمة المسلمين وفساد نيات كثير منهم إلى يوم القيامة، وكان رسول الله يحذر من ذلك ويعلمه قبل وقوعه، وذلك دليل على نبوّته‏.‏

باب الْفِتْنَةِ الَّتِى تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ

وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ‏:‏ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ‏:‏ الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ - فيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، قَالَ عُمر‏:‏ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فِى الْفِتْنَةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ‏:‏ لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، وَلَكِنِ الَّتِى تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ‏:‏ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ عُمَرُ‏:‏ أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ إِذًا لا يُغْلَقَ أَبَدًا، قُلْتُ‏:‏ أَجَلْ، قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ‏:‏ أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنِّى حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأغَالِيطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ‏:‏ مَنِ الْبَابُ‏؟‏ فقَالَ‏:‏ الْبَابُ عُمَرُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، خَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَتِهِ وَخَرَجْتُ فِى إِثْرِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْحَائِطَ، جَلَسْتُ عَلَى بَابِهِ، وَقُلْتُ‏:‏ لأكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَأْمُرْنِى، فَذَهَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ، فَقُلْتُ‏:‏ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَوَقَفَ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ‏)‏، فَدَخَلَ، فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ النَّبيىِّ صلى الله عليه وسلم فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَجَاءَ عُمَرُ، فَقُلْتُ‏:‏ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ‏)‏، فَجَاءَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ فَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَامْتَلأ الْقُفُّ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْلِسٌ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ، فَقُلْتُ‏:‏ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، مَعَهَا بَلاءٌ يُصِيبُهُ‏)‏، فَدَخَلَ، فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ مَجْلِسًا، فَتَحَوَّلَ حَتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ عَلَى شَفَةِ الْبِئْرِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ دَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لِى وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَأْتِىَ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ‏:‏ فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمُ اجْتَمَعَتْ هَاهُنَا، وَانْفَرَدَ قبر عُثْمَانُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو وَائِل، قِيلَ لأسَامَةَ‏:‏ أَلا تُكَلِّمُ هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا لم أَفْتَحَ بَابًا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ، وَمَا أَنَا بِالَّذِى أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى رَجُلَيْنِ‏:‏ أَنْتَ خَيْرٌ، بَعْدَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏يُجَاءُ بِرَجُلٍ، فَيُطْرَحُ فِى النَّارِ، فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ‏:‏ أَىْ فُلانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ إِنِّى كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا أَفْعَلُهُ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ‏:‏ لَقَدْ نَفَعَنِى اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ لَمَّا بَلَغَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى، قَالَ‏:‏ ‏(‏لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مَرْيَم، لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ بَعَثَ عَليٌّ إلى عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ، فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ، فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ، فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ فِى أَعْلاهُ، وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنَ الْحَسَنِ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ، فَسَمِعْتُ عَمَّارًا، يَقُولُ‏:‏ إِنَّ عَائِشَةَ، قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاكُمْ؛ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِىَ‏.‏

وقال مرةً‏:‏ وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ، يعنى عائشة‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو وَائِلٍ، دَخَلَ أَبُو مُوسَى وَأَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَمَّارٍ حَيْثُ بَعَثَهُ عَلِىٌّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ، فَقَالا‏:‏ مَا رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدَنَا مِنْ إِسْرَاعِكَ فِى هَذَا الأمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ، فَقَالَ عَمَّارٌ‏:‏ مَا رَأَيْتُ مِنْكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْتُمَا أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدِى مِنْ إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا الأمْرِ، وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً، ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْمَسْجِدِ‏.‏

- وروى أيضًا قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوسِرًا‏:‏ يَا غُلامُ، هَاتِ حُلَّتَيْنِ، فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا أَبَا مُوسَى وَالأخْرَى عَمَّارًا، وَقَالَ‏:‏ رُوحَا فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ حديث حذيفة وأبى موسى من أعلام النبوة؛ لأن فيهما الإخبار عما يكون من الفتن والغيب، وذلك لا يعلم إلا بوحى من الله‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ إنما كان يسأل حذيفة عن الشر ليعرف موضعه فيتوقاه، وذلك أن الجاهل بالشر أسرع إليه وأشد وقوعًا فيه وروى عن بعض السلف أنه قيل له‏:‏ إن فلانًا لا يعرف الشر‏.‏

قال‏:‏ ذاك أجدر أن يقع فيه، ولهذا صار عامّة ما يروى من أحاديث الفتن وأكثر ما يذكر من أحوال المنافقين ونعوتهم منسوبة إليه ومأخوذة عنه‏.‏

وقال غيره‏:‏ وإنما تنكب حذيفة حين سأله عمر عن الفتنة فجاوبه عن فتنة الرجل فى أهله وماله وولده وجاره ولم يجاوبه عن الفتنة الكبرى التى تموج كموج البحر لئلا يغمه ويشغل باله، ألا ترى قوله لعمر‏:‏ ‏(‏ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين فإن بينك وبينها بابًا مغلقًا‏)‏ ولم يقل له أنت الباب، وهو يعلم أن الباب عمر، فإنما أراد حذيفة ألا يواجهه بما يشق عليه ويهمه، وعرض له بما فهم عنه عمر أنه هو الباب ولم يصرح له بذلك، وهذا من حسن أدب حذيفة، رضى الله عنه‏.‏

قال المهلب‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فمن أين علم عمر أن الباب إذا كسر لم يغلق أبدًا‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه استدل عمر على ذلك؛ لأن الكسر لا يكون إلا غلبةً، والغلبة لا تكون إلا فى الفتنة، وقد علم عمر وغيره من النبى صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها، فلم يزل الهرج إلى يوم القيامة، وروى معمر، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن أبى الأشعث الصنعانى، عن أبى أسماء الرحبى، عن شداد بن أوس، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا وضع السيف فى أمتى لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة‏)‏ وفيه أن الصحابة كان يأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويصدق بعضهم بعضًا، وكلهم عدول رِضىً، وهم خير أمةٍ أخرجت للناس‏.‏

وفى حديث أبى موسى البُشرى بالجنة لأبى بكر وعمر وعثمان، إلا أنه قال فى عثمان ‏(‏مع بلاءٍ يصيبه‏)‏ وكان ذلك البلاء أنه قتل مظلومًا شهيدًا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف خص عثمان بذكر البلاء؛ وقد أصاب عمر مثله؛ لأنه طعنه أبو لؤلؤة فمات من طعنته شهيدًا كما مات عثمان شهيدًا‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن عمر وإن كان مات من الطعنة شهيدًا، فإنه لم يمتحن بمثل محنة عثمان من تسلط طائفة باغية متغلبة عليه، ومطالبتهم له أن ينخلع من الإمامة، وهجومهم عليه فى داره، وهتكهم ستره، ونسبتهم إليه الجور والظلم وهو برئ عند الله من كل سوء، بعد أن منع الماء مع أشياء كثيرة يطول إحصاؤها، وعمر لم يلق مثل هذا، ولا تسوّر عليه أحد داره، ولا هتك ستره، ولا قتله من شهد شهادة التوحيد فيحاجه بها عند الله يوم القيامة؛ ولذلك حمد الله عمر على ذلك، فكان الذى أصاب عثمان من البلاء غير قتله بلاء شديدًا لم يصب عمر مثله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما قول أبى وائل‏:‏ ‏(‏قيل لأسامة‏:‏ ألا تكلم هذا الرجل‏)‏ يعنى عثمان بن عفان ليكلمه فى شأن الوليد؛ لأنه ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره، وكان أخا عثمان لأمه، وكان عثمان يستعمله على الأعمال، فقيل لأسامة‏:‏ ألا تكلمه فى أمره؛ لأنه كان من خاصة عثمان، وممن يخف عليه، فقال‏:‏ قد كلمته فيما بينى وبينه، وما دون أن أفتح بابًا أكون أوّل من يفتحه، يريد لا أكون أوّل من يفتح باب الإنكار على الأئمة علانيةً فيكون بابًا من القيام على أئمّة المسلمين فتفترق الكلمة وتتشتت الجماعة، كما كان بعد ذلك من تفرق الكلمة بمواجهة عثمان بالنكير، ثم عرفهم أنه لا يداهن أميرًا أبدًا بل ينصح له فى السر جهده بعدما سمع النبى يقول فى الرجل الذى كان فى النار كالحمار يدور برحاه، من أجل أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن الشر ويفعله يعرفهم أن هذا الحديث جعله ألا يداهن أحدًا، يتبرأ إليهم مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإن الإنكار على الأمراء فى العلانية من السنة لما روى سفيان عن علقمة بن مرثد، عن طارق بن شهاب‏:‏ ‏(‏أن رجلاً سأل النبى صلى الله عليه وسلم أى الجهاد أفضل‏؟‏ قال‏:‏ كلمة حق عند سلطان جائر‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ قد اختلف السلف قبلنا فى تأويل هذا الحديث فقال بعضهم‏:‏ إنما عنى النبى صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏كلمة حق عند سلطان جائر‏)‏ إذا أمن على نفسه القتل أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به، هذا مذهب أسامة بن زيد، وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة، وروى عن مطرف بن الشخير أنه قال‏:‏ والله لو لم يكن لى دين حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف فأنبذ إليه كلمة فيقتلنى إن دينى إذًا لضيق‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الواجبُ على من رأى منكرًا من ذى سلطان أن ينكره علانيةً وكيف أمكنه، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وأبىّ بن كعب، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏)‏ وبقوله‏:‏ ‏(‏إذا هابت أمتى أن تقول للظالم‏:‏ يا ظالم، فقد تودع منهم‏)‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ من رأى من سلطانه منكرًا فالواجب عليه أن ينكره بقلبه دون لسانه، واحتجوا بحديث أم سلمة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يستعمل عليكم أمراء بعدى، تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضى وتابع، قالوا‏:‏ يا رسول الله، أفلا نقاتلهم‏؟‏ قال‏:‏ لا، ما صلوا‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصّواب‏:‏ أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا لم يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها؛ لورود الأخبار عن النبى صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للأئمة، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه‏.‏

قالوا‏:‏ وكيف يذل نفسه‏؟‏ قال‏:‏ يتعرض من البلاء ما لا يطيق‏)‏‏.‏

فإن قال قائل فى حديث أسامة‏:‏ فكيف صار الذين كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر معه فى النار وهو لهم بالمعروف آمر، وعن المنكر ناهٍ‏؟‏ قيل‏:‏ لم يكونوا أهل طاعة، وإنما كانوا أهل معصية‏.‏

وأما حديث أبى بكرة فإن فى ظاهره توهية لرأى عائشة فى الخروج‏.‏

قال المهلب‏:‏ وليس كذلك لأن المعروف من مذهب أبى بكرة أنه كان على رأى عائشة وعلى الخروج معها، ولم يكن خروجها على نيّة القتال، وإنما قيل لها‏:‏ اخرجى لتصلحى بين الناس فإنك أمهم ولم يعقوك بقتال‏.‏

فخرجت لذلك، وكان نية بعض أصحابها إن ثبت لهم البغى أن يقاتلوا التى تبغى، وكان منهم أبو بكرة ولم يرجع عن هذا الرأى أصلا وإنما تشاءم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم فى تمليك فارس امرأة أنهم يغلبون، لأن الفلاح فى اللغة البقاء؛ لا أن أبا بكرة وهّن رأى عائشة، ولا فى الإسلام أحد يقوله إلا الشيعة، فلم يرد أبو بكرة بكلامه إلا أنهم يغلبون إن قوتلوا، وليس الغلبة بدلالة على أنهم على باطل؛ لأن أهل الحق قد يُغلبون، وتكون لهم العاقبة كما وعد الله المتقين، وذلك عيان فى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأحد، وجعل الله لهم العاقبة، كما جعلها لمن غضب لعثمان وأنف من قتله وطلب دمه، وليس فى الإسلام أحد يقول‏:‏ إن عائشة دعت إلى أمير معها، ولا عارضت عليًا فى الخلافة، ولا نازعته لأخذ الإمارة، وإنما أنكرت عليه منعه من قتلة عثمان، وتركهم دون أن يأخذ منهم حدود الله ودون أن يقتصّ لعثمان منهم، لا غير ذلك، فهم الذين خشوها وخشوا على أنفسهم فورّشوا ودسوا فى جمع عائشة من يقول لهم‏:‏ إن عليا يقاتلكم فخذوا حذركم وشكوا سلاحكم وعبئوا حربكم، وقالوا لعلى‏:‏ إنهم يريدون أن يخلعوك ويقاتلوك على الإمارة، ثم استشهدوا بما يرونه من أخذ أصحاب الجمل بالحزم وتعبئتهم الصفوف وحمل السلاح ثم يقولون له‏:‏ هل يفعلون ذلك إلا لقتالك حتى حرّكوه، وكانوا أول من رمى فيهم بالسّهام وضربوا بالسيوف والرماح حتى اشتبك القتال ووقع ما راموه، وكان فى ذلك خلاصهم مما خشوه من اجتماع الفريقين على الاستقادة لعثمان منهم، هذا أحسن ما قيل فى ذلك‏.‏

وأما حديث أبى موسى وأبى مسعود حين دخلا على عمار، فإن عمارًا بعثه على إلى الكوفة ليستنفرهم، فجرى بينهم ما جرى من تقبيح رأى عمار وإسراعه فى الفتنة بالخروج وكشف الوجه وقد علم نهى النبى عن حمل السلاح على المسلمين، ثم توبيخ عمار لأبى موسى وأبى مسعود على قعودهما عن ذلك، وكل فريق منهم مجتهد له وجه فى الصّواب، وكان اجتماعهم عند أبى مسعود بعد أن خطب عمار الناس على المنبر بالنفير، وكان أبو مسعود كثير المال جوادًا وكان ذلك يوم جمعة فكساهما حلتين ليشهدا بها الجمعة؛ لأن عمارًا كان فى ثياب السفر وهيئة الحرب فكره أن يشهد الجمعة فى تلك الثياب، وكره أن يكسوه بحضرة أبى موسى ولا يكسو أبا موسى؛ لأنه كان كريمًا‏.‏

والقف‏:‏ ما ارتفع عن الأرض، عن صاحب العين‏.‏

باب إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الحديث يبين حديث زينب بنت جحش أنها قالت‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ قال‏:‏ نعم، إذا كثر الخبث‏)‏ فيكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصى، ودلّ قوله‏:‏ ‏(‏ثم بعثوا على أعمالهم‏)‏ أن ذلك الهلاك العام يكون طهرةً للمؤمنين ونقمةً للفاسقين وقد تقدّم هذا فى أول كتاب الفتن‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ‏:‏ ‏(‏إِنَّ ابْنِى هَذَا لَسَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏)‏

- فيه‏:‏ إِسْرَائِيلُ، أنَّهُ جَاءَ إِلَى ابْنِ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ‏:‏ أَدْخِلْنِى عَلَى عِيسَى أَعِظَهُ، فَكَأَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ خَافَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ ابْنُ عَلِىٍّ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ‏:‏ أَرَى كَتِيبَةً لا تُوَلِّى حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا، قَالَ مُعَاوِيَةُ‏:‏ مَنْ لِذَرَارِىِّ الْمُسْلِمِينَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَنَا، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ‏:‏ نَلْقَاهُ، فَنَقُولُ لَهُ‏:‏ الصُّلْحَ، قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ، قَالَ‏:‏ بَيْنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، جَاءَ الْحَسَنُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حَرْمَلَةَ مَوْلَى أُسَامَةَ، قَالَ‏:‏ أَرْسَلَنِى أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ بْن أَبِي طالب، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ الآنَ، فَيَقُولُ‏:‏ مَا خَلَّفَ صَاحِبَكَ‏؟‏ فَقُلْ لَهُ‏:‏ يَقُولُ لَكَ‏:‏ لَوْ كُنْتَ فِى شِدْقِ الأسَدِ لأحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ، فَلَمْ يُعْطِنِى شَيْئًا، فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَابْنِ جَعْفَرٍ، فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه فضل السعى بين المسلمين فى حسم الفتن والإصلاح بينهم وأن ذلك مما تستحق به السيادة والشرف، وقول معاوية‏:‏ ‏(‏من لذرارى‏)‏ يدل على أنه كره الحرب وخشى سوء عاقبة الفتنة؛ ولذلك بعث عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن ابن على يسأله الصلح، فأجاب الحسن بن على رغبةً فيه وحقنًا لدماء المسلمين وحرصًا على رفع الفتنة، وقد تقدم فى الصلح‏.‏

وأما قول إسرائيل لابن شبرمة أدخلنى على عيسى أعظه يعنى‏:‏ عيسى بن موسى، فخاف عليه ابن شبرمة من ذلك، فدل أن مذهب ابن شبرمة أن من خاف على نفسه لا يلزمه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر‏.‏

وأما حديث أسامة فإنه أرسل مولاه إلى على بن أبى طالب يعرفه أنه من أحبّ الناس إليه وأنه يحب مشاركته فى السراء والضراء، ويعتذر إليه من تخلفه عن الحرب معه، وأنه لا يرى ذلك لما روى عنه‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى الحرقة أدرك رجلا بالسيف فقال له الرجل‏:‏ لا إله إلا الله، فقتله فأخبر النبى بذلك، فقال له‏:‏ يا أسامة قتلته بعدما قال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله إنما قالها تعوّذًا‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ أقتلته بعدما قال‏:‏ لا إله إلا الله‏؟‏ فما زال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم‏)‏ فآلى أسامة على نفسه أن لا يقاتل مسلمًا أبدًا، فلذلك قعد عن علىّ، رضى الله عنه، فى الجمل وصفين‏.‏

باب إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلافِهِ

- فيه‏:‏ نَافِع، لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى لا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ‏:‏ وَإِنِّى لا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلا بَايَعَ فِى هَذَا الأمْرِ إِلا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو الْمِنْهَالِ، لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ وَمَرْوَانُ بِالشَّأْمِ، وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ، فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِى إِلَى أَبِى بَرْزَةَ الأسْلَمِىِّ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فِى دَارِهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِى ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ مِنْ قَصَبٍ، فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَأَنْشَأَ أَبِى يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا بَرْزَةَ، أَلا تَرَى مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ‏؟‏ فَأَوَّلُ شَىْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ‏:‏ إِنِّى احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّى أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِى عَلِمْتُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلالَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالإسْلامِ وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِى أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ، إِنَّ ذَلكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ، وَاللَّهِ أن يُقَاتِلُ إِلا عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنْ ذَلكَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلا عَلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إِلا عَلَى الدُّنْيَا‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَة، قَالَ‏:‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ‏.‏

- وَقَالَ مرةً‏:‏ إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الإيمَانِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معنى الترجمة إنما هو فى خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ورجوعهم عن بيعته وما قالوا له، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا بحضرته، وذلك أن ابن عمر بايع يزيد ابن معاوية فقال عنده بالطاعة لخلافته، ثم خشى على بنيه وحشمه النكث مع أهل المدينة حين نكثوا بيعة يزيد، فجمعهم ووعظهم وأخبرهم أن النكث أعظم الغدر‏.‏

وأما قول أبى برزة‏:‏ ‏(‏إنى أحتسبُ عند الله أنى أصبحت ساخطًا على أحياء قريش‏)‏ فوجه موافقته الترجمة أن هذا قول لم يقله عند مروان حين بايعه بل بايع واتبع، ثم سخط ذلك لما بعد عنه، وكأنه أراد منه أن يترك ما نوزع فيه للآخرة ولا يقاتل عليه كما فعل عثمان فلم يقاتل من نازعه، بل ترك ذلك لمن قاتله عليه، وكما فعل الحسن بن على حين ترك القتال لمعاوية حين نازعه أمر الخلافة فسخط أبو برزة من مروان تمسكه بالخلافة والقتال عليها، فقد تبين أن قوله لأبى المنهال وابنه بخلاف ما قال لمروان حين بايع له، وأما يمينه أن الذى بالشام إن يقاتل إلا على الدنيا، فوجهه أنه كان يريد أن يأخذ بسيرة عثمان والحسن رضى الله عنهما، وأمّا يمينه على الذى بمكة، يعنى ابن الزبير، فإنه لما وثب بمكة بعد أن دخل فيما دخل فيه المسلمون جعله نكثًا منه وحرصًا على الدنيا، وهو فى هذه أقوى رأيًا منه فى الأولى، وكذلك القراء بالبصرة؛ لأنه كان رحمه الله لا يرى الفتنة فى الإسلام أصلا، فكان يرى أن يترك صاحب الحق حقه لمن نازعه فيه لأنه مأجور فى ذلك، وممدوح بالإيثار على نفسه، وكان يريد من المقاتل له أن يقتحم النار فى قيامه وتفريقه الجماعة وتشتيته الكلمة، ولا يكون سببًا لسفك الدماء واستباحة الحرم أخذًا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار‏)‏ فلم ير القتال البتة‏.‏

وأما حديث حذيفة وقوله‏:‏ ‏(‏إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبى صلى الله عليه وسلم‏)‏ لأنهم كانوا يسرون قولهم فلا يتعدّى شرهم إلى غيرهم، وأما اليوم فإنهم يجهرون بالنفاق ويعلنون بالخروج على الجماعة ويورثون بينهم ويحزبونهم أحزابًا، فهم اليوم شر منهم حين لا يضرون بما يسرونه‏.‏

ووجه موافقته للترجمة أن المنافقين بالجهر وإشهار السلاح على الناس هو القول بخلاف ما قالوه حين دخلوا فى بيعة من بايعوه من الأئمة؛ لأنه لا يجوز أن يتخلف عن بيعة من بايعه الجماعة ساعة من الدهر؛ لأنها ساعة جاهليّة، ولا جاهليّة فى الإسلام، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏ فالتفرق محرّم فى الإسلام وهو الخروج عن طاعة الأئمة‏.‏

وأما قول أبى برزة واحتسابه سخطه على أحياء قريش عند الله، فكأنه قال‏:‏ اللهم إنى لا أرضى ما تصنع قريش من التقاتل على الخلافة، فاعلم ذلك من نيتى، وأنى أسخط فعلهم واستباحتهم للدماء والأموال، فأراد أن يحتسب مما يكرهه من إنكار القتال فى الإسلام عند الله أجرًا وذخرًا، فإنه لم يقدر من التغيير عليهم إلا بالقول والنية التى بها يأجرُ الله عباده‏.‏

باب لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُغْبَطَ أَهْلُ الْقُبُورِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ‏:‏ يَا لَيْتَنِى مَكَانَهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ تغبيط أهل القبور وتمنى الموت عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصى والمنكر‏.‏

وروى ابن المبارك عن سعيد بن عبد العزيز، عن ابن عبد ربه أن أبا الدرداء كان إذا جاءه موت الرجل على الحال الصالحة قال‏:‏ هنيئًا له ليتنى بدله، فقالت له أم الدرداء‏:‏ لم تقول هذا‏؟‏ فقال‏:‏ إن الرجل ليصبح مؤمنًا ويمسى كافرًا، قالت‏:‏ وكيف‏؟‏ قال‏:‏ يسلب إيمانه وهو لا يشعر، فلأنا أغبط لهذا بالموت أغبط من هذا فى الصوم والصلاة‏.‏

وقد روى عن النعمان بن بشير، عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن بين يدى الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسى كافرًا، ويمسى مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع فيها أقوام دينهم بعرض من الدنيا يسير‏)‏‏.‏

ومن حديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏بين يدى الساعة فتن يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه‏)‏‏.‏

وعن ابن مسعود قال‏:‏ سيأتى عليكم زمان لو وجد فيه أحدكم الموت يباع لاشتراه، وسيأتى عليكم زمان يغبط فيه الرجل بخفة الحاذ كما يغبط فيه بكثرة المال والولد‏.‏

وأما من لم يخف فساد دينه وذهاب إيمانه فلا يتمنى الموت ذلك الزمان لمشابهته بأهله وحرصه فيما دخلوا فيه، بل ذلك وقت يسود فيه أهل الباطل، ويعلو فيه سفلة الناس ورذالتهم ويسعد بالدنيا لكع بن لكع‏.‏

باب تَغْيِيرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الأوْثَان

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِى الْخَلَصَةِ‏)‏، وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِى كَانُوا يَعْبُدُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّاتم‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر مسلم فى كتابه ما يبين حديث أبى هريرة قال‏:‏ حدثنا أبو كامل الجحدرى قال‏:‏ حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبى سلمة، عن عائشة قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت‏:‏ يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله‏:‏ ‏(‏هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ‏(‏إلى‏)‏ الْمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 33‏]‏ أن ذلك تام قال‏:‏ إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبةً فيتوفى كل من فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذه الأحاديث وما جانسها معناها الخصوص، وليس المراد بها أن الدين ينقطع كله فى جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شىء؛ لأنه قد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة إلا أنه يضعف ويعود غريبًا كما بدأ، وروى حماد بن سلمة، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن حصين قال‏:‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال‏)‏ وكان مطرف يقول‏:‏ هم أهل الشام، فبين صلى الله عليه وسلم فى هذا الخبر خصوصه سائر الأخبار التى خرجت مخرج العموم، وصفة الطائفة التى على الحق مقيمة إلى قيام الساعة أنها بيت المقدس دون سائر البقاع، فبهذا تأتلف الأخبار ولا تتعارض، وقد تقدم فى كتاب العلم فى باب من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فما وجه ذكر حديث القحطانى الذى يسوق الناس بعصاه فى هذا الباب‏؟‏ قال المهلب‏:‏ وجه ذلك أنه إذا قام رجل من قحطان ليس من فخذ النبوة ولا من رهط الشرف الذين جعل الله فيهم الخلافة فذلك من أكبر تغير الزمان وتبديل أحكام الإسلام أن يدعى الخلافة، وأن يطاع فى الدين من ليس أهل ذلك‏.‏

باب خُرُوجِ النَّارِ

وَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِىءُ أَعْنَاقَ الإبِلِ بِبُصْرَى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَهُ فَلا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا‏)‏‏.‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَصَدَّقُوا، فَسَيَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَمْشِى الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ، فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ الَّذِى يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ‏:‏ لا أَرَبَ لِى بِهِ، وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِى الْبُنْيَانِ، وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ‏:‏ يَا لَيْتَنِى مَكَانَهُ، وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ، يَعْنِى آمَنُوا، أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ‏)‏ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 185‏]‏، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ فَلا يَسْقِى فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلا يَطْعَمُهَا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ترجم البخارى فى باب خروج النار ولم يسنده فى هذه المواضع اكتفاء بما تقدم من إسناده فى كتاب الأنبياء، رواه عن ابن سلام، عن الفزارى، عن حميد، عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم، وروى حسين المروزى، عن عبد الوهاب حدثنا عبيد بن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن كعب قال‏:‏ ‏(‏تخرج نار من قبل اليمن تحشر الناس تغدو معهم إذا غدوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتروح معهم إذا راحوا، فإذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام‏)‏‏.‏

وكل ما ذكرناه فى هذا الحديث من الأشراط فهى علامات لقيام الساعة كخروج النار ومعناها واحد، وقد جاء فى حديث أن النار آخر أشراط الساعة، رواه ابن عيينة، عن فرات القزاز، عن أبى الطفيل، عن أبى سريحة حذيفة بن أسيد قال‏:‏ ‏(‏أشرف علينا النبى صلى الله عليه وسلم من غرفة فقال‏:‏ ما تذكرون‏؟‏ قلنا‏:‏ نتذاكر الساعة قال‏:‏ إنها لا تقوم حتى يكون قبلها عشر آيات‏:‏ الدجال والدخان، والدابة وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى بن مريم، وثلاثة خسوف‏:‏ خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم‏)‏‏.‏

وذكر ابن أبى شيبة، حدثنا محمد بن بشر، عن أبى حيان، عن أبى زرعة، عن عبد الله ابن عمرو، قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضُحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبًا منها‏.‏

وحديث أنس أصح من هذه الأحاديث، وقد روى حماد بن سلمة عن أبى المهزم يزيد ابن سفيان، عن أبى هريرة قال‏:‏ ‏(‏خروج الآيات كلها فى ثمانية أشهر‏)‏ أبو المهزم ضعيف، وقال أبو العالية‏:‏ الآيات كلها فى ستة أشهر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏تضئ أعناق الإبل ببصرى‏)‏ فالعرب تقول‏:‏ أضاءت النار وأضاءت النار غيرها‏.‏

باب ذِكْرِ الدَّجَّالِ

- فيه‏:‏ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ‏:‏ ‏(‏مَا سَأَلَ أحدٌ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِى‏:‏ ‏(‏مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لأنَّهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ، وَنَهَرَ مَاءٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَجِىءُ الدَّجَّالُ حَتَّى يَنْزِلَ فِى نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، فتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو بَكْرَة، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ، وَلَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَامَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى لأنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِىٍّ إِلا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّى سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلا لَمْ يَقُلْهُ نَبِىٌّ لِقَوْمِهِ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ‏)‏‏.‏

- وزاد ابْن عَبَّاس، وَأَنَس، وأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يَنْطُفُ، أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً، قُلْتُ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ جَسِيمٌ أَحْمَرُ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ الْعَيْنِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قَالُوا‏:‏ هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ، رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، سَمِعْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِيذُ فِى صَلاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَة، وَأَبُو مَسْعُودٍ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏الدَّجَّالِ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا، فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَمَاؤُهُ نَارٌ‏)‏‏.‏

إن قال قائل‏:‏ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ترجف المدينة ثلاث رجفات‏)‏ وقد قال فى حديث أبى بكرة‏:‏ ‏(‏إنه لا يدخل المدينة رعب المسيح‏)‏‏؟‏ قال المهلب‏:‏ فالجواب‏:‏ أن رجفات المدينة ليست من رعبه ولا من خوفه، وإنما ترجف المدينة لمن يتشوف إلى الدجال من المنافقين فيخرجهم أهل المدينة كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنها تنفى خبثها‏)‏‏.‏

والدليل على أن المؤمنين فيها لا يرعبون من الدجال؛ أنه يخرج إليه منهم رجل يناظره وهو الذى يقول له الدجال‏:‏ أرأيت إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون فى الأمر‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا‏.‏

يعنى فيقول المنافقون الذين معه غير ذلك الرجل الصالح فيقتله ثم يحييه، فيقول ذلك الرجل‏:‏ والله ما كنت قط أشد بصيرة منى اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، فهل يدخل رعبه المدينة وأحدهم يناظره ويقارعه ويجهر له بأنه الدجال، ولا يوهن قلبه ما يراه من قدرة الله الذى أقدره على أن يقتل رجلا ثم يحييه ولا يخافه على مهجته وهو وحده لا يمتنع منه بعدد ولا عدة ولا جماعة‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإذا سلط الدجال على قتل رجل وإحيائه فهذا أن الله قد يعطى آيات الأنبياء وقلب الأعيان أهل الكذب على الله وأشد أعدائه فرية عليه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فنقول‏:‏ إنه لا يجوز أن تعطى أعلام الرسل أهل الكذب والإفك فى الحال التى لا سبيل لمن عاين ما أتى به الفريقان إلى الفصل بين المحق منهم والمبطل، فأما إذا كان لمن عاين ذلك السبيل إلى علم الصادق ممن ظهر ذلك على يده من الكاذب، فلا ينكر إعطاه الله ذلك الكذابين لعلة من العلل كالذى أعطى الدجال من ذلك فتنة لمن شاهده، ومحنة لمن عاينه ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين‏.‏

فإن قيل‏:‏ وما السبب الذى يصيب به من عاين ما يظهر من ذلك على يد الدجال أنه مبطل‏؟‏ قيل‏:‏ أبين الأسباب فى ذلك أنه ذو أجزاء مؤلفة، وتأليفه عليه بكذبه شاهد، وأن تأثير الصنعة فيه لمن ركب أعضاءه خلق ذليل وعبد مهين، مع آفة به لازمة من عور إحدى عينيه، يدعو الناس إلى الإقرار بأنه ربهم الذى خلقهم، فأسوأ حالات من يراه من ذوى العقول أن يعلم أنه لم يكن ليسوى خلق غيره ويعدله ويحسنه، وهو على دفع العاهات عن نفسه غير قادر‏.‏

فأقل ما يجب أن يقول له من يدعوه إلى الإقرار له بالألوهية‏:‏ إنك تزعم أنك خالق السموات والأرض وما فيهما وأنت أعور ناقص الصورة، فصور نفسك وعدلها على صورة من أنت فى صورته إن كنت محقًا فى ذلك، فإن زعمت أن الرب لا يحدث فى نفسه شيئًا فإنك راكب من الخطايا أرذلها، فتحول من الجماد إلى أشرف منه وأزل ما هو مكتوب بين عينيك من الكتاب الشاهد على كذبك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما قوله فى حديث المغيرة‏:‏ ‏(‏إنهم يقولون أن معه جبل خبر ونهر ماءٍ‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو أهون على الله من ذلك‏)‏‏.‏

يريد والله أعلم هو أهون من أن يفتن الناس به فيملكه معايش أرزاقهم وحياة أرماقهم، فتعظم بذلك فتنتهم، بل تبقى عليه ذلة العبودية بتحويجه إلى معالجة المعاش، وقد ملكه ما لا يضر به إلا من قضى الله له بالشقاء فى أم الكتاب، وإنما يوهم الناس أن هذه نار يشير إليها ليخافه من لا بصيرة له فى دين الله فيتبعه مخافتها على نفسه، ولو أنعم النظر لرأى أنها ماء بارد وكذلك لما توهن به وهو ماء لمن لا بصيرة له ولا عنده علم بما قدمه الرسول من العلم لأمته بأن ناره ماء، وماءه نار، ومن أعطى فتنته ثم جعل له على تلك الفتنة علم بطلانها ومحالها لم تكن فتنة شاملة، ولا يفتتن بها إلا الأول لافتضاحها بأول من يلقى فيها فيجدها بخلاف ما أوهم فيها، ولولا انتقاله من بلد إلى بلد لأمنت تلك الفتنة إلا على الأول، لكنه يرد كل يوم بلدة لا يعرف أهلها ما افتضح من أمره فى غيرها فيظل يفتن، ويعصم الله العلماء منه، ومن علم علامة الرسول وثبته الله واستدل بأن من كان ذا عاهةٍ لا يكون إلهًا، فقد بان أنه أهون على الله من أن يمكنه من المعجزات تمكينًا صحيحًا، لأن إقداره على قتل الرجل وإحيائه لم يستمر له فى غيره ولا استضر به المقتول إلا ساعة ألمه، وقد لا يجد لقتله ألمًا لقدرة الله على دفع ألمه عنه، فإن آلمه آجره بذلك فى الآخرة، وإن لم يؤلمه فقد أدام له الحياة بإحيائه، ثم لا يسلط على قتل أحد ولا إحيائه‏.‏

وذكر على بن معبد عن عبد الله بن عمر، وعن زيد بن أبى أنيسة، عن أشعث بن أبى الشعثاء عن أبيه، عن ابن مسعود قال‏:‏ إن الدجال يرحل فى الأرض أربعين ليلة، وعن أبى مجلز قال‏:‏ إذا خرج الدجال فالناس ثلاث فرق‏:‏ فرقة تقاتله، وفرقة تفر منه، وفرقة تشايعه، فمن تحرز منه فى رأس جبل أربعين ليلة أتاه رزقه، وأكثر من يشايعه أصحاب العيال يقولون‏:‏ إنا لنعرف ضلالته، ولكن لا نستطيع ترك عيالنا، فمن فعل ذلك كان منه‏.‏

وذكر الطبرى بإسناده عن أبى أمامة الباهلى، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه حدثهم عن الدجال‏:‏ ‏(‏أنه يخرج بين الشام والعراق فيقول أنه نبى، ثم يثنِّى فيقول‏:‏ أنا ربكم وإنه يأتى بجنة ونار، فناره جنة وجنته نار‏.‏

فمن ابتلى بناره فليستعن بالله، فإنها تكون عليه بردًا وسلامًا ومن ابتلى به فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف وليتفل فى وجهه، فإنه لا يعدو ذلك، ويقتل رجلاً ثم يحييه وليس يحيى أحدًا بعده، وإن له أربعين يومًا يوم كالسنة ويوم كالشهر ويوم كجمعة ويوم كسائر الأيام، ويعدو الرجل من باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى تغيب الشمس‏)‏‏.‏

وروى الطبرى بإسناده عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد أن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر عندها الدجال فقال‏:‏ ‏(‏إن قبل خروجه ثلاثة أعوام تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والعام الثانى تمسك السماء ثلثى قطرها والأرض ثلثى نباتها، والعام الثالث تمسك السماء قطرها والأرض نباتها حتى لا يبقى ذات ضرس ولا ذات ظلف إلا مات، ومن أعظم فتنته أنه يأتى الرجل فيقول له‏:‏ إن أحييت لك أباك أو أخاك أو عمك تعلم أنى ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏

فيمثل له شياطين عنده‏.‏

ويأتى الأعرابى فيقول‏:‏ إن أحييت لك إبلك عظامًا ضروعها، طوالاً أسنمتها؛ تعلم أنى ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏

فيتمثل له شياطين عنده‏.‏

فبكى القوم فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن يخرج فيكم فأنا حجيجه، وإلا فالله خليفتى على كل مؤمن‏.‏

قالت أسماء‏:‏ ما يكفى المؤمن يومئذ من الطعام يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ يكفيه ما يكفى أهل السماء التسبيح والتقديس‏)‏‏.‏

وذكر ابن أبى شيبة بإسناده عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يخرج مع الدجال يهود أصبهان فيقتله عيسى ابن مريم بباب لد، ثم يمكث عيسى فى الأرض أربعين سنة أو قريبًا منها إمامًا عدلاً وحكمًا مقسطًا‏)‏‏.‏

قال الخطابى‏:‏ قال ثعلب‏:‏ الطافية‏:‏ العنبة التى قد خرجت عن حد بنية أخواتها فعلت ونتأت وظهرت، يقال‏:‏ طفا الشىء إذا علا وظهر، ومنه الطافى من السمك‏.‏

باب لا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، حَدَّثَنِى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّجَّالِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَأْتِى الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ، فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِى تَلِى الْمَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، فَيَقُولُ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِى حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ‏:‏ أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا، ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، هَلْ تَشُكُّونَ فِى الأمْرِ‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ لا، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ‏:‏ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّى الْيَوْمَ، فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ، لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلا الدَّجَّالُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد تقدم الكلام فى حديث أبى سعيد وأبى هريرة، وفيه فضل المدينة وأنها خصت بهذه الفضيلة والله أعلم لبركة النبى صلى الله عليه وسلم ودعائه لها، وقد أراد الصحابة أن يرجعوا إلى المدينة عندما وقع الوباء بالشام ثقةً منهم بقول رسول الله الذى أمنهم دخول الطاعون بلده، وكذلك توقن أن الدجال لا يستطيع دخولها البتة، وفى ذلك من الفقه أن الله تعالى يوكل ملائكته بحفظ بنى آدم من الآفات والفتن والعدو إذا أراد حفظهم وقد وصف الله تعالى ذلك فى قوله‏:‏ ‏(‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏ يعنى بأمر الله لهم بحفظه‏.‏

وروى على بن معبد قال‏:‏ ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعى، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس من نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج إليه كل منافق‏)‏‏.‏

والأنقاب‏:‏ الطرق، واحدها نقب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَقَّبُوا فِى الْبِلاَدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 36‏]‏ أى جعلوا فيها طرقًا ومسالك، وقال صاحب العين‏:‏ النقب والنُّقب والمنقبة‏:‏ الطريق فى رأس الجبل‏.‏

باب يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ

- فيه‏:‏ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ، مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ‏)‏، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الإبْهَامِ وَالَّتِى تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُفْتَحُ الرَّدْمُ، رَدْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، مِثْلُ هَذِهِ‏)‏، وَعَقَدَ تِسْعِينَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر يحيى بن سلام، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن أبى رافع، عن أبى هريرة‏:‏ أن رسول الله قال‏:‏ ‏(‏إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم‏:‏ ارجعوا فتخرقونه غدًا فيعيده الله كأشد ما كان إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم‏:‏ ارجعوا فستخرقونه غدًا إن شاء الله‏.‏

فيغدون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه، فيخرجون على الناس فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم فى حصونهم فيرمون سهامهم فترجع إليهم والدماء فيها، فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفًا فى أقفائهم فيقتلهم بها‏)‏‏.‏

وذكر على بن معبد، عن أشعث بن شعبة، عن أرطاة بن المنذر قال‏:‏ إذا خرج يأجوج ومأجوج أوحى الله إلى عيسى ابن مريم‏:‏ إنى قد أخرجت خلقًا من خلقى لا يطيقهم أحد غيرى، فمر بمن معك إلى جبل الطور ومعك من الذرارى اثنا عشر ألفًا‏.‏

قال‏:‏ ويأجوج ومأجوج ذرء جهنم، وهم على ثلاث أثلاث‏:‏ ثلث على طور الأرز والسرس، وثلث مربع طوله وعرضه واحد وهم أشد، وثلث يفترش أحدهم أذنه يلتحف بالأخرى وهم ولد يافث ابن نوح‏.‏

وعن الأوزاعى عن ابن عباس قال‏:‏ الأرض ستة أجزاء فخمسة أجزاء منها يأجوج ومأجوج، وجزء فيه سائر الخلق‏.‏

وعن كعب الأحبار قال‏:‏ معاقل المسلمين من يأجوج ومأجوج الطور‏.‏